والخلاصة:
أن موضوع علم الأخلاق هي الأعمال التي صدرت من العامل عن عمد وإختيار، يعلم صاحبها وقت عملها ماذا يعمل، وكذلك الأعمال التي صدرت لا عن إرادة ولكن كان يمكن تجنب وقوعها عندما كان مريدا مختارا، فهذان النوعان يحكم عليهما بالخير أو الشر - وأما ما يصدر لا عن إرادة وشعور، ولا يمكن تجنبه في حالة الإختيار، فليس من موضوع علم الأخلاق. (3) التبعة الأخلاقية (المسئولية الأخلاقية)
مما تقدم نفهم أن التبعة لا تكون إلا إذا وجدت الإرادة، فما لا دخل لإرادة الإنسان فيه لا يسأل عنه، ولا يلام عليه، ولا يمدح أو يذم من أجله، فلا يمدح الشخص لطوله، ولا يذم لقصره، من الناحية الأخلاقية، ولا يقال: إنه خير لأنه جميل الوجه ولا شرير لأنه قبيحه، لأن هذه الأشياء وأشباهها لا عمل لإرادة الإنسان فيها. وليس يلام الإنسان على سوء صحته، ولا يمدح على حسنها إلا بمقدار ماله من أعمال إرادية في ذلك، كسيره في حياته في نظام صحي أو إهماله ذلك.
كذلك لا يسأل الإنسان عما لم يمنح من ملكات عقلية أو فنيه، فالناس لم يخلقوا جميعا وعندهم استعداد بقدر واحد للرياضة أو للفنون الجميلة، فمن لم يخلق رياضيا لا يكون مسئولا عن ضعفه الرياضي، إنما يكون مسئولا إذا كان عنده الإستعداد الكافي وكان ينقصه المران والجد ثم لم يمرن ولم يجد وهكذا.
والطفل الرضيع إذا بكى وأسهر أمه طول الليل لا يسأل عن عمله لأنه لا إرادة له، والصيدلي إذا أخطأ فأعطى الممرضة دواء غير المكتوب في تذكرة الطبيب فناولته الممرضة للمريض وهي جاهله به فمات منه كان المسئول هو الصيدلي لا الممرضة، لأنها لا إرادة لها في ذلك، والصيدلي هو المسئول لإهماله في عمله.
فمتى وجدت الإرادة وجدت المسئولية، وما لم توجد الإرادة فلا مسئولية، فالأعمال التي ليس في طاقة الإنسان التحرز عنها والتي غلب فيها على نفسه لا يسأل عنها، كأعمال المجنون والمغمى عليه، وكذلك أعمال المكره، فمن أمسك بيد آخر واضطره لارتكاب جريمة ولم يستطع المكره بحال أن يقاومه لم يكن مسئولا، إنما المسئول من أكرهه على العمل.
وهنا كثيرا ما يعرض هذا السؤال وهو: هل إرادة الإنسان حرة حتى يكون مسئولا عن عمله؟ هذه المسألة من المسائل المشكلة التي طال فيها الجدل قديما وحديثا، فيذهب بعض الباحثين إلى أن الإنسان مجبر ليس حر الإرادة؛ ذلك لأن إرادة الإنسان تتأثر بشيئين: الوراثة والبيئة، فهو يرث من أبويه ميولا خيره وميولا شريرة، وكذلك تؤثر فيه البيئة التي حوله من بيت ومدرسة وأصدقاء وكتب ونحو ذلك، فمن نشأ من أبوين مجرمين، وورث منهما الميل إلى الإجرام، وشب بين مجرمين وسمع أحاديثهم كان مجرما لا محالة، ولم يكن حر الإرادة فيما يفعل، وليس في استطاعته إلا أن يكون مجرما، وإذا أردت إصلاحه فأصلح البيئة التي يعيش فيها، وأنقله من بيئته السيئة إلى بيئة خيرة، ولكن في هذا الرأي غلوا، فإن الإرادة - وإن كانت تتأثر بالوراثة والبيئة إلى درجة كبيرة - فإنها لا تفقد حريتها، وأوضح دليل على ذلك ما نشعر به في أنفسنا من أننا أحرار في الإختيار، وأننا نستطيع أن نعمل الشىء وألا نعمله، فمن كذب شعر من نفسه بأنه كان يستطيع ألا يكذب، ومن أجل هذا يندم على كذبته، ولو كان كذبه محتما عليه ما ندم - ولولا أن إرادة الإنسان حره في اختيار الخير والشر لما كان هناك معنى للتعاليم الأخلاقية - ولكان الأمر بفعل الخير والنهي عن الشر ضربا من العبث، ولما كان هناك معنى للثواب والعقاب والمدح والذم.
وهناك نوعان من المسئولية: مسئولية قانونية، ومسئولية أخلاقية، فالإنسان إذا خالف قانون البلاد كان مسئولا أمام القضاء، وعوقب من أجل مخالفته، وإذا خالف أوامر الأخلاق كان مسئولا أمام الله وأمام ضميره، والمسئولية الأخلاقية أوسع دائرة من المسئولية القانونية: ذلك لأن القانون لا يأمر ولا ينهي إلا إذا استطاع أن يعاقب من يخالف أمره ونهيه بالعقوبات التي نص عليها، أما الأخلاق فسلطانها أوسع، لأن من يتولى لها المثوبة والعقوبة هو الله والضمير، وكلاهما يشرف على الأعمال الظاهرة والباطنة - فالقانون لا يستطيع أن ينهى عن الكذب والحسد لأنه لا يستطيع أن «يسأل» من يرتكبهما، ولو حاول أن يعاقب الكاذب أو الحاسد لارتكب من إضرار الناس بالوشاية والتجسس أكثر مما يصلح، أما الأخلاق فتنهى عن الكذب والحسد وتنهى عن أكثر من ذلك. فتسأل الإنسان عن نياته التي في أعماق نفسه ولو لم يصدر عنها عمل، وتكل مكافأته على نياته الحسنة ومعاقبته على نياته السيئة إلى الله وإلى ضميره.
الفصل الثاني
الضمير
Página desconocida