وقد علمنا مما تقدم أن الحكم الأخلاقي لا يصدر إلا على الأعمال الإرادية، فما لم تكن إرادة لا يصدر حكم أخلاقي، فلو فاض النيل فأغرق كثيرا من البلدان، أو هبت عاصفة فدمرت بلادا، أو هاجت الأمواج فأغرقت سفنا، لا نحكم على هذه الأعمال بأنها شر، إذ لا إرادة، ولو فاض النيل في اعتدال فروى للأرض وأفادها، وهب نسيم عليل فأزهر النبات وأنعش النفوس لم نحكم على ذلك بأنه خير، كذلك إذا جمح حصان فأوقع راكبه، أو سار سيرا حسنا فأوصل صاحبه إلى غايته لا نحكم على عمله بأنه شر في الأولى ولا خير في الثانية ما دمنا لا نعترف للحصان بإرادة - وكذلك أعمال الإنسان غير الإرادية كالتي سبق شرحها. (2) هل يصدر الحكم باعتبار الغرض أو النتيجة
والآن نريد أن نسأل: قد عرفنا ما نحكم عليه من الأعمال بأنه خير أو شر وما لا نحكم، ولكن إذا أردنا أن نحكم فهل نحكم على العمل باعتبار نتائجه أو باعتبار الغرض الذي أراده العامل من عمله؟ ولتوضيح ذلك نقول: إن هناك غرضا للعامل من عمله، وهذا يسبق العمل، وهناك نتائج تحصل من العمل وهذه تلحقه، فمثلا قد يقرر جماعة من الأطباء بعد الفحص اجراء عملية لمريض، ثم يتبين بعد اجرائها أن الفكرة كانت خطأ، وأنه كان الأولى ألا تعمل، ثم يموت المريض منها، فغرض الأطباء أن يشفى المريض، ولأجل هذا أقدموا على ما عملوا، ولكن النتيجة أنه مات، وهذا الغرض كان قبل العمل، وهو غرض حسن، والنتيجة حصلت بعد العمل، وهي سيئة، فهل نحكم على الأطباء باعتبار غرضهم أو باعتبار نتيجة عملهم؟ وهكذا كثير من الأعمال، كرجال حكومة أعلنوا الحرب على أمه أخرى لأنهم رأوا خير أمتهم في ذلك، وقد رأوا قوتهم أكبر من قوة عدوهم، وحسبوا أن ما يغنمون من الفوائد أكبر مما يفقدون من جنودهم وأموالهم، ولكن خاب ما أملوا، فهزموا وسلبوا بعض الولايات، فغرضهم كان الخير لأمتهم، والنتيجة كانت شرا لها، فعلى أي اعتبار نحكم؟ وكذلك العكس، فقد يريد الإنسان شرا ثم تكون النتيجة خيرا، كمن يريد أن يغش آخر فيغريه بشراء شيء يظن فيه الخسارة له، فيغنم الشاري من وراء ذلك ربحا كبيرا، فالغرض شر والنتيجة خير، فهل نحكم على العمل بأنه شر تبعا للغرض أو خير تبعا للنتيجة؟
الحق أن العمل يجب أن يحكم عليه بأنه خير أو شر نظرا لغرض العامل منه لا نظرا لنتيجته، فالعمل الذي قصد به الخير خير مهما استتبع من النتائج، والذي أريد به الشر شر ولو استتبع نتائج حسنة، فقبل الحكم على عمل ينبغي أن نعرف غرض العامل منه، أما العمل في ذاته من غير نظر إلى الغرض منه فليس بخير ولا بشر، فلو سألتني هل إحراق أوراق مالية قيمتها ألف جنيه خير أو شر؟ لأجبتك: لا يمكن ذلك حتى أتبين غرض العامل من عمله، فقد يكون شرا إذا أراد من إحراقها الإنتقام من مالكها، وقد يكون خيرا كما إذا قدمت رشوة لقاض ورأى القاضي أن لا سبيل إلى تأديب الراشي إلا إحراقها.
ولما كان الحكم الأخلاقي يعتمد على معرفة غرض العامل من عمله لم يجز لنا أن نصدر الحكم بالخير أو الشر إلا على أنفسنا أو على من نتحقق غرضهم من أعمالهم، إما بإخبارهم، أو بقيام القرائن على أغراضهم، فإذا رأينا من إنسان عملا فلا نعجل بالحكم عليه، بل يجب أن نتريث حتى نعرف غرضه منه.
نعم هناك أحكام أخرى نصدرها على العمل باعتبار نتائجه لا باعتبار الغرض منه، وذلك كالحكم على العمل بأنه نافع أو ضار، فإنه إنما يصدر باعتبار نتيجته، والحكم على الشيء بأنه نافع أو ضار غير الحكم عليه بأنه خير أو شر، كلاهما ينظر إلى الشيء من جهة غير التي ينظر إليها الآخر، فعمل الأطباء في المثال السابق خير ضار، خير لأنهم قصدوا إلى شفاء المريض، وضار لأن النتيجة كانت وفاته، وهكذا، ولكن يجب أن نعلم أن الحكم على الفعل بأنه نافع أو ضار تبعا لنتائجه ليس حكما أخلاقيا، إنما الحكم الأخلاقي هو الحكم بأنه خير أو شر تبعا للغرض منه.
والإنسان لا يلام على عمل عمله يريد منه الخير مهما ساءت نتائجه، بشرط أن يكون قد بذل جهده في معرفة ما ينتج من عمله، وإنما يلام إذا كان في استطاعته أن يرى النتائج إذا دقق في البحث وأنعم النظر ثم لم يفعل، فموضع اللوم هو التقصير عند اختيار العمل، وعدم الدقة في حساب نتائجه، وليس موضع اللوم هو إرادة العمل الصالح، ففي مثل الأطباء السابق لا لوم عليهم إذا كانوا بذلوا أقصى جهدهم في فحصهم وأتت النتيجة بما ليس في حسبانهم، إنما يلامون إذا قصروا في الحكم وبنوا حكمهم على نظر سطحي غير دقيق. •••
في جميع ما تقدم كان الحكم الأخلاقي يصدر على العمل، ولكن نرى أحيانا أن الحكم الأخلاقي يصدر على العامل، فيقال: إن فلانا طيب وفلانا خبيث أو أنه خير أو شرير، فما الذي نلحظه عند حكمنا هذا الحكم؟
عندما نحكم على العامل نلاحظ «حاصل الجمع» لما يأتي به من أعمال. فقد عرفنا - قبل - ما هو العمل الخير، وما هو العمل الشر، فالآن نذكر لك أن الرجل الخير أو الطيب هو الذي يصدر عنه من الأعمال الخيرة أكثر مما يصدر عنه من الشر، والرجل الشرير هو الذي يكثر منه صدور الأعمال الشريرة، ومن هذا نستنتج أن الرجل الخير قد يأتي بعمل شر ولكن يكون الغالب عليه عمل الخير، لأنا في حكمنا على العمل إنما نلاحظ الغرض من عمله وفي حكمنا على العامل نلاحظ مجموع أعماله في حياته. (3) مقياس الحكم الأخلاقي
ولكن بأي مقياس أقيس الشيء فأحكم عليه بالخير أو الشر؟ إن الناس كثيرا ما يختلفون في نظرهم إلى الشيء الواحد فمنهم من يراه خيرا ومنهم من يراه شرا، بل الشخص الواحد قد يرى الشيء خيرا في آن ثم يراه شرا في آن آخر، فما هذا المقياس الذي بمراعاته نصدر هذا الحكم؟ وأى شيء يراعيه الناس فيقولون: إنه خير أو شر؟
للاجابة على هذا السؤال نستعرض المقاييس التي يستعملها الناس، وقد رأى الباحثون أن الحكم الأخلاقي تدرج في الرقي بتدرج الناس، فهم في حالة سذاجتهم ينظرون إلى الأشياء ويحكمون عليها بمقياس، ثم إذا ارتقوا قليلا تغير مقياسهم وحكمهم، وهكذا حتى يصلوا إلى درجة كبيرة من الرقي فيسمو كذلك حكمهم الأخلاقي؛ ولنتتبع الآن الأدوار التي مر بها لناس. (3-1) العرف
Página desconocida