كفاية النبيه
شرح التنبيه
في فقه الإمام الشافعي
تأليف
الإمام الفقيه أبي العباس نجم الدين أحمد بن محمد ابن الرفعة
المتوفى سنة٧١٠هـ
دراسة وتحقيق وتعليق
الأستاذ الدكتور مجدي محمد سرور باسلوم
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
وصلى الله على محمد وآله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
وبعد؛ فإن العلم من أشرف ما يطلب، وأجل ما يستدر به رزق الله ويجلب، وحسبك ما ورد في أهله من التعظيم.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم﴾.
والفقه من أهم علوم الديانات، والاشتغال به متنوع إلى فروض الأعيان والكفايات، قال الله -وهو أصدق القائلين-: ﴿فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين﴾.
وقال سيد المرسلين: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
أما كتاب "التنبيه" للشيخ الإمام علم الأعلام جمال الإسلام أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي المعروف بـ"الشيرازي" كتابا زكا أصله، فنما فرعه، واشتهر فضله، فعم نفعه؛ لصلاح سريرة مؤلفه وجميل قصده، وتوفير نيته، وورعه وزهده، استخرت الله تعالى وعلقت عليه شيئا ينتفع به الطلاب، وأرجو به جزيل الأجر والثواب، وتوسطت فيه طرفي التقليل والإسهاب، لينحل به مشكله ويفهم
1 / 99
معناه، ويظهر به ما أراده بمنطوقه وفحواه، ويتحقق به المتعنت السائل صدق قوله، وإذا قرأه المبتدئ وتصوره تنبه به على أكثر المسائل.
وسميته لذلك "كفاية النبيه"، وهو في الحقيقة بداية الفقيه، وحقيق لمن صدق هذا القول أو ينفيه ألا يعجل وينعم فيطالع ما فيه، فظني أنه مستودع لأكثر ما في الكتب المنثورة من المنقول، والفوائد والمأثور.
وقد اعتمدت في المنقول أن أشير إذا كان مذكورا في مظنته من كتاب مشهور، وأن أعزيه إلى قائله أو محله إن نقل ذلك لكيلا يتمادى إنكاره الجاهل المغرور، وتارة أعزيه إلى كتاب كبير مع أنه في كتاب صغير، لتعلم بظافر [تضافر] النقل عليه، فينتفي تطرق الاحتمال عليه.
وقد اعتمدت في تجريد الفوائد وترتيب القواعد أن أذكرها في معرض السؤال بعد كلام الشيخ عن تلك المقاصد، وكثيرا ما أذكر قولا أو وجها في مسألة ثم أقول: ويتجه أو ينبغي طرد ذلك في كذا مما هو شبيه بالمسألة، ولست أروم بذلك تخريج وجه، ولكن أقوله تقوية للجمع بين المسألتين، وطلبا للفرق بين المأخذين، فقد قيل: ينبغي لمن حاول الخوض فيما سبق إليه أن يعتمد خمسة أمور: جمع مفترق، وإيضاح متعلق، وإيجاز مطول، واختراع مستجد.
وبالجملة، فكل مأخوذ من قوله ومتروك، إلا من عصمه الله، فنسأل الله التواب أن يهدينا للصواب، ويسامحنا يوم الحساب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
1 / 100
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الطهارة
الكتاب -في اللغة-: مأخوذ من الكَتْب، وهو الضم، يقال: تكتب بنو فلان
إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل: كتيبة، وللكتابة بالقلم: كتابة، [لاجتماعها على الحروف].
والطهارة -في اللغة-: النظافة وإزالة الأقذار.
وفي الاصطلاح: رفع حدث أو إزالة نجس.
1 / 101
قال الشيخ محي الدين النواوي: أو ما في معناهما، وهو تجديد الوضوء والأغسال المسنونة،
والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والنجاسة، والتيمم وغير ذلك، لا يرفع حدثا، ولا يزيل نجسا، ولكنه في معناه.
قلت: وفي هذا نظر؛ لأن ما لا يرفع حدثا ولا يزيل نجسا ليس في معنى ما يفعل ذلك، فكيف يلحق به؟!، فلا جرم عدل بعضهم عن هذه العبارة وقال: هي عبارة عن فعل ما تستباح به الصلاة من: وضوء أو غسل أو تيمم أو إزالة نجاسة عن بدن أو ثوب أو محل.
وهذه العبارة أقرب من التي قبلها، لكن فيها تجوز، لأن الطهارة فعل شرعي كالنجاسة، وإطلاقها على فعل الوضوء ونحوه من باب إطلاق المتعلِّق على المتعلَّق، كما ذكره الشيخ في باب إزالة النجاسة. وقد يظن أن هذه العبارة لا تشمل الغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والنجاسة، وليس كذلك؛ فإن التثليث في الوضوء وإزالة النجاسة صفة لهما، فاندرج فيهما.
والتحقيق ما قاله القاضي الحسين في باب نية الوضوء: إن الطهارة
1 / 102
الشرعية رفع الحدث وإزالة النجاسة، لأن الطهارة مصدر طهر، وذلك يقتضي رفع شيء، والشرع لم يرد باستعمال لفظ الطهارة في غير رفع الحدث وإزالة النجس، فاختص الاسم بهما، وإطلاق حملة الشرع على الوضوء المجدد والأغسال المسنونة: طهارة - من مجاز التشبيه؛ لأن الوضوء المجدد شبيه بالوضوء الرافع للحدث في صورته مع أنه عبادة يشترط فيها النية، وكذلك الأغسال المسنونة شبيهة بالغسل الرافع لحدث في صورته وكونه عبادة تفتقر إلى النية.
وإطلاقهم على التيمم: طهارة، مجاز أيضا، وهو كإطلاقه ﵇ على التراب وضوءًا، ومعلوم أنه ليس بوضوء، ولكن لما قام مقامه سماه باسمه، وكذا نقول في التيمم لما قام مقام الطهارة في إباحة الصلاة سمي باسمها.
وبعضهم لاحظ ما ذكرناه من حصر الطهارة الشرعية فيما ذكرناه واستشعر أن التيمم وارد عليه، فأخرجه بقوله: الطهارة بالماء: رفع الحدث أو إزالة النجس.
1 / 103
قال القاضي الحسين: ثم الطهارة على نوعين: عينية وحكمية.
فالعينية التي اختص وجوبها بمحل حلولها، وهي إزالة النجاسة.
والحكمية: ما يتعدى وجوبها عين محل حلول وجوبها، مثل: الوضوء والغسل وبدلهما.
1 / 104
ومن عد التيمم من أنواع الطهارة قال: الطهارة على قسمين: طهارة عن أحداث، وطهارة عن أخباث.
ثم طهارة الأحداث على قسمين: طهارة بالماء، وطهارة بالتراب.
وطهارة الأخباث ثلاثة أقسام: طهارة بالمائع، وطهارة بالجامد، وطهارة بالاستحالة.
وأراد بالمائع: الماء، وبالجامد: آلة الدباغ لا الاستنجاء بالأحجار، فإنه لا تحصل به الطهارة، بدليل: أنه لو تركه المستنجي في ماء قليل نجسه، ولو حمله مصل لم تصح صلاته على أحد الوجهين، وبالاستحالة: انقلاب الخمر خلا، ولكل قسم من الأقسام أحكام تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.
1 / 105
باب المياه
الباب -في اللغة-: ما يتوصل منه إلى مقاصد يشتمل عليها، وهو مستعمل هنا لافتتاح أحكام مندرجة تحت اسم خاص، وقد يدرج في الباب ما لا تصدق عليه الترجمة؛ لتعلقه بما اشتملت عليه من وجه ما، كما ستعرفه.
والمياه: جمع ماء، وإنما جمعه -وإن كان اسم جنس ينطلق على الكثير والقليل- لاختلاف أنواعه، وهي ثلاثة: طهور، وطاهر، ونجس:
فالطهور: هو الطاهر في نفسه، الصالح لتطهير غيره، المسمى في الكتاب بالماء المطلق، وهو منقسم إلى مكروه وغيره.
والطاهر: هو الطاهر في نفسه غير صالح لتطهير غيره، كالمتغير بمخالطة ما لا يستغني عنه، أو بمجاورته على قول، أو مستعمل على قول.
1 / 106
والنجس: هو الذي لا يجوز استعماله.
قال: قال الله تعالى: ﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورا﴾، بدأ الشيخ ﵀ بهذه الآية؛ لأمرين:
أحدهما: تبركا بالكتاب العزيز.
والثاني: اقتداء بالمزني؛ فإنه كذا فعل، ولفظه: "قال الشافعي: قال الله تعالى ﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورا﴾ "، وفعل ذلك ليُعلِم أن الشافعي هو المحتج بالآية لا هو نفسه، وفي الحقيقة فالمقتدى به هو الشافعي، قيل: فكانت عادته أنه إذا أراد أن يصدر بابا، فإن كان في ذلك الباب آية تلاها، وإن كان هناك سنة رواها، وإن كان هناك أثر حكاه، ثم رتب عليه مسائل الباب.
1 / 107
واختص هذه الآية بالذكر، وإن كان في الباب أصرح منها في الدلالة على مقصوده، وهو قوله تعالى: ﴿وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به﴾ لإفهامها معنى زائدا، وهو أن الطهور ما كان طاهرا في نفسه، وصلح لتطهير غيره، لا أنه هو الطاهر، كما صار إليه الأصم وابن داوود، وبعض متأخري أصحاب أبي حنيفة، وطائفة من أهل اللغة، كما قال أبو الطيب. وتدل عليه الآية الأخرى؛
1 / 108
فإن المطلق يحمل على المقيد عند اتحاد الواقعة بلا خلاف.
وقد ادعى المحاملي أن الدلالة عليه من الآية نفسها؛ فإنه تعالى لو اقتصر على قوله: ﴿وأنزلنا من السماء ماء﴾ لتعلقت الطهارة به، فإن ذلك مسوق في معرض المنة، ويستحيل أن يمن الله تعالى بما ليس بطاهر، فوجب حمل قوله: ﴿طهورا﴾ على التطهير، لا على الطهارة، وإلا كان غير
1 / 109
مفيد معنى زائدا، وقد وردت السنة بما يعضده، روى الشافعي بسنده أن قوما سألوا النبي ﷺ: إنا نركب البحر، ونحمل القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضا بماء البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وقد أخرجه غيره، وقال الترمذي: إنه حسن صحيح.
1 / 110
ووجه الدلالة منه أنه لو لم يكن بمعنى: مطهر، لم يكن مجيبا لسؤالهم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولذلك قال ﵇: (الحل ميتته)؛ فإنهم لما جهلوا جواز الطهارة بمائه مع وضوحه بقوله: ﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورا﴾ وقوله: ﴿فسلكه ينابيع في الأرض﴾ - كانوا بحل ميتته أجهل؛ لقوله تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ...﴾.
وقد قيل: ذكره لفائدة تعود على الماء، وهو أنه لا ينجس بموت حيواناته فيه؛ لأنه حلال، وقال ﵇: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا) أي: مطهر إناء أحدكم.
1 / 114
وقال ﵇: (جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا) ومعلوم أن
1 / 115
التراب طاهر في نفسه، فلو لم يكن بمعنى مطهر، لما كان له ﵇ خصوصية به دون غيره.
1 / 116
فإن قيل: قد ورد طهور بمعنى: طاهر، في قوله تعالى: ﴿وسقاهم ربهم شرابا
طهورا﴾ [الإنسان: ٢١] فإن أهل الجنة لايحتاجون إلى التطهير، وليس هناك حدث
ولا خبث يزال، وقال جرير في صفات بعض النسوة: [من الطويل]
.................... ... عذاب الثنايا ريقهن طهور
والريق لا يتطهر به.
فجوابه: أنه تعالى وصف شراب أهل الجنة بأعلى صفات شراب أهل الدنيا، وهو
المتطهر به، وإن كان أهل الجنة غير محتاجين إلى التطهير.
وقول جرير حجة لنا، لأنه قصد تفضيلهن على غيرهن، ولو أراد به معنى: طاهر، لم يكن لوصفه إياهن بذلك مزية على غيرهن من النسوة.
فإن قيل: لو كان كما قلتم لاقتضى جواز تكرار الطهارة به، لأن طهورا من أبنية
المبالغة كالصبور والشكور، فإنه اسم لمن تكرر منه ذلك.
قلنا: سنذكر جوابه آخر الباب.
1 / 117
تنبيه: الطهور -بفتح الطاء-: ما يتطهر به، وبالضم: المصدر، بمنزلة: التطهر.
وكذلك [الوَضوء] والوُضوء.
قال: ولا يجوز رفع حدث ولا إزالة نجس إلا بالماء المطلق، وهو ما نزل من السماء، أو نبع من الأرض
على أي صفة كان من [أصل] الخلقة.
الجواز -في اصطلاح الفقهاء؛ كما قال بعضهم-: إذا أضيف إلى العقود كان
بمعنى الصحة، وإذا أضيف إلى الأفعال كان بمعنى رفع الحرج.
قلت: وهو هنا بمعنى الصحة ورفع الحرج، إذ من أمر [غير] الماء على
أعضاء طهارته بنية الوضوء أو الغسل لا يصح وقد حرج، لأنه تقرب بما ليس
موضوعا للتقرب به، فعصى لتلاعبه، وستعرف سر ذلك في باب الحيض.
والفصل يشتمل على مسألتين:
إحداهما: رفع الحدث أصغر كان أو أكبر.
والثانية: إزالة النجس: المغلظ منه: وهو نجاسة الكلب ونحوه، والمخفف: وهو
بول الغلام الذي لم يطعم، وما بينهما.
واقتضى الفصل اشتمال كل مسألة على حكمين:
أحدهما: جوازه بما نزل من السماء، وهو ماء المطر وذوب الثلج والبرد، وما نبع
1 / 118
من الأرض: وهو ماء البحار [وماء الأنهار وماء الآبار].
والثاني: عدم جوازه بغير ذلك.
فالدليل على الجواز فيهما بما نزل من السماء، قبل الإجماع.
من الكتاب قوله تعالى: ﴿وأنزلنا من السماء ماء طهورا﴾ [الفرقان: ٤٨] وقوله
تعالى: ﴿وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم﴾ [الأنفال: ١١]
فإن قلت: هذا يدل على الجواز بما نزل [من السماء] ماء لا ثلجا وبردا-
قيل: الثلج والبرد إنما ينزل من السماء والجمود يعرض له في الهواء، كما يعرض له
على وجه الأرض، وقد روي أن النبي ﷺ كان يقول في دعائه: " اللهم اغسلني بماء الثلج والبرد وطهرني كما يطهر الثوب الأبيض من الدنس" رواه البخاري ومسلم.
1 / 119