وعدلت السفينة إلى الشاطئ، فتبعتها القافلة وألقت مرساتها، واختار الشاب أن يكون هو مبعوث القافلة إلى الحدود، وكان عظيم الحماسة قوي التصميم، فلم يعترض الشيخ سبيله؛ وانتقل إلى قارب وجدف بساعديه المفتولين مفارقا القافلة نحو الحدود، وتبعه الشيخ بعينيه وهو يقول برجاء مؤثر: «أيها الرب المعبود آمون .. هذا ابنك الصغير يسعى إلى وطنه وراء غرض نبيل؛ أن يعز سلطانك، ويرفع ذكرك، ويحرر أبناءك، فأيده يا رب وانصره واحفظه ...»
ومضى الشاب يجدف في قوة، وظهره إلى هدفه، يستدير لينظر وراءه كل هنيهة وقد اضطرم صدره بالحنين، وأحس لهواء الوطن وهو يدنو من جوه لذة جديدة، خفق لها قلبه أيما خفقان، ثم رأى في إحدى التفاتاته سفينة حربية صغيرة تصعد نحوه معترضة سبيله، فأيقن أن حراس الحدود تنبهوا له، وجاءوا يتحققون من أمره، ودنا بقاربه من السفينة حتى سمع صوت الضابط الواقف في مقدمها يصيح به: «كيف تدنو يا هذا من المنطقة الحرام؟»
فصمت الشاب حتى شارف القارب السفينة، ثم حيا الضابط ذا اللحية تحية إجلال وتعظيم، وقال متبالها: باركك الرب ست أيها الضابط الباسط، إني قاصد وطنكم المجيد بتجارة ثمينة.
فقطب الضابط جبينه وقال بفظاظة: خسئت أيها الأحمق، ألا تدري أن هذا الطريق مغلق منذ عشرة أعوام؟ .. فأبدى الشاب الجميل دهشة، وقال: وماذا يصنع إنسان مثلي جمع متاعا ثمينا ليتقرب به من فرعون مصر المعبود ورجال مملكته؟ .. هلا أذنت لي بمقابلة حاكم جزيرة بيجة النبيل؟
فقال الضابط بوحشية: بل ستعود من حيث أتيت حيا، إن لم ترغب في أن تدفن حيث تثرثر .. فأخرج الشاب من صدره حافظة من الجلد ملأى بقطع الذهب، ورمى بها تحت قدمي الضابط قائلا: نحن في بلادنا نحيي آلهتنا بتقديم الهدايا، فاقبل تحيتي ورجائي.
فتناول الضابط الحافظة وفتحها، وعبثت أنامله بقطع الذهب، فاختلجت أجفانه، وردد بصره بينها وبين الشاب بذهول، ثم هز رأسه كأنه لا يخفي حنقه على الفتى الذي ثناه عن رأيه قسرا، وقال بصوت هادئ: إن دخول مصر ممنوع، ولكن قد تستحق رغبتك الشريفة استثناءك من أمر المنع، فاتبعني إلى حاكم الجزيرة.
وابتهج الشاب، واتخذ مجلسه مرة أخرى في القارب، وشد على المجداف بقوة ونشاط، وانحدر متتبعا السفينة صوب شاطئ بيجة، ورست السفينة ثم القارب، ووضع الشاب قدميه على الأرض في حذر وإشفاق، كأنما يدوس شيئا طاهرا مقدسا، وقال له الضابط مرة أخرى: «اتبعني». فتبعه على الأثر، وبالرغم من تشدده في التسلط على أعصابه، أفلت زمامه وتمشت في حواسه نشوة، وعصر قلبه حنين سماوي، فخفق قلبه خفقانا شديدا متواليا، وجع من شدة اضطرام عواطفه يذهل سريعا، إنه في أرض مصر، مصر التي يحفظ لها أجمل الذكريات، وأفتن الصور وأبهج الآثار، إنه يود لو يترك وحيدا فيملأ صدره من نسيمها العليل، ويمرغ خديه بثراها .. إنه في أرض مصر.
واستيقظ من حلمه على صوت الضابط الغريب وهو يقول له ثالث مرة «اتبعني». فنظر فرأى قصرا جميلا يقف أمامه رجال مسلحون، فأدرك أنه أمام قصر حاكم الجزيرة، ودخل الضابط، فتبعه غير مبال لنظرات القوم الحادة التي تصوب نحوه من كل جانب.
2
وأذن له بالدخول إلى بهو الاستقبال بعد أن سبقه الضابط إليه، كان الحاكم يستقبل فيه من لا يحتاج النظر في مظالمهم لغير الذهب، وألقى الشاب نظرة على الحاكم وهو يمضي، فلفتت نظره لحيته الطويلة الكثة، وعيناه اللوزيتان الحادتان، وأنفه البارز الأقنى كأنه شراع قارب، وكان الرجل يرمق الداخل بعين فاحصة، ونظرة تدل على الحذر والريبة، فانحنى الشاب بين يديه بإجلال عظيم، وقال بأدب بالغ: ندى الرب صباحك أيها الحاكم الجليل.
Página desconocida