وقال فهيم الحوت: يا أختي تفيدة لا تشغلي بالك، ماذا يمكن أن يزعل منه عيل إلا شغل عيال مثله؟ ولا يهمك.
ولكن زوجته تحية بخبرتها وأمومتها معا أدركت أن الأمر ليس بهذه الضآلة، وإنما جارت زوجها في الحديث. - على رأيك. إذن فلن تبيتي معنا الليلة.
يا ريت ... كان مناي. ولكن عمك حسين من يخدمه. لقد كبر الأولاد كما تعرفين وأصبحت أنا وهو وحدنا في البيت فإذا عاد من العمل لم يجد غيري، وأظل أخدمه حتى يخرج ليقعد على المقهى، وهذه الفترة هي التي أستطيع فيها أن أزور صديقاتي أو أولادي. لكن حتما أكون في البيت قبل رجوعه فإن عاد ولم يجدني غضب كأنه عيل صغير. - ربنا يخليك له. - ويخليك ياختي، العقبي لك حين تفرحين بفرغلي وتزورينه في بيت عدله إن شاء الله. - سلمت يا حبيبتي.
وانبعث صوت من حجرة فرغلي كأنه أنين. - أمه.
وحاولت تحية أن تتجاهله ولكن تفيدة قالت لها: قومي يا حبيبتي شوفي ابنك ... يمكن أن يكون جائعا. - سأعد له الأكل حالا. أنا أريد أن أجلس معك، لي زمان لم أرك. - يا اختي ربنا يجبر بخاطرك، أنا ميعادي قرب.
وقالت تحية لتغير الحديث: وعم حسين أفندي مرتاح في الشغل؟ - له أربعون سنة فيه، ليس في مصر من يعرف الأرشيف مثل عمك حسين وهو اسم النبي حارسه ذكي وشاطر.
وقال فهيم: أتراه متضايقا لقرب خروجه على المعاش. - يا أخي يا فهيم أنت تعرف حسين يرضى بكل شيء، وهو عامل حسابه على يوم المعاش ومبسوط في أمان الله. كل الذي سيتغير أنه سيجلس على المقهى في الصباح والمساء بدل أن يجلس عليه في المساء فقط، والماهية تقريبا لن ينقص منها شيء. - على رأيك.
وجاء الصوت المطحون مرة أخرى. - أمه. - قومي يا حبيبتي شوفي فرغلي. وأنا فتك بعافية. تعالى معي يا فهيم وصلني المحطة؛ تركبني القطار وتسلم على حسين أفندي. - أي والله لي زمان لم أره ... هيا بنا.
حين دخلت تحية إلى فرغلي وجدته جالسا على حرف السرير ينظر إلى فراغ ... باهت العينين جامد الوجه، وحين توسطت الحجرة نظر إليها طويلا وفهمت هي كل شيء، وكأن شيئا يتكلم في داخلها؛ شيئا غير إنساني ينطق عن حطام مدمر كل التدمير. - أصحيح يا أمه ...
ولم يكمل. - أمك أشرف واحدة في هذه الدنيا كلها. - إذن فهو صحيح. - وماذا في الأمر إن كان صحيحا. - لو لم يكن فيه شيء لتركتني ألعب مع عيال البلد، ولتركتني أروح المدرسة في البلد. - خفت عليك. - والآن. - ماله الآن؟ - ماذا أفعل؟ - ضع إصبعك في عين أعظم عظيم فيهم! الفقر ليس عيبا، وأنا كنت آكل لقمتي بعرق جبيني، ولو لم أكن شريفة ما أبقاني أبوك في بيته كل هذه السنوات. - لا فائدة من كل هذا. - إذا كنت تريد أن تغيظ من يسيئون إليك ذاكر وانجح واطلع الأول عليهم. - أتظنين هذا ينفع. - لا ينفع غيره. - أمه ... أنا اتبهدلت قوي يا أمه. اتبهدلت قوي يا أمه ...
Página desconocida