كانت في مدارس ذلك الحين مقاعد طويلة أشبه بمقاعد البوابين متناثرة في فناء المدرسة. اختار مقعدا مواجها للباب يرقب منه التلاميذ الداخلين.
كان شلبي المبوع أول من دخل من جماعته القديمة. نظر إليه مليا ولم يره شلبي، وإن كان فرغلي ظن أن شلبي رآه وصرف عنه عينيه، ولم يعجب فرغلي من هذا التصرف بل إن ما فعله بشلبي في معركة الأحذية هو الذي موه عليه صدق النظرة، وجعله يظن هذا الظن. أسقط شلبي من تفكيره وظل محملقا للباب ينتظر أن يرى عمران الفوال أو عطية سيد أحمد أو فرحات عبد الباسط جماعته القديمة.
وقبل أن يأتي أحد منهم أحس يدا تربت على كتفه، والتفت ولم يصدق هنيهة ثم مد يده لشلبي الذي رآه فجأة يحييه. لم يكن فرغلي يدرك بعد أن السفلة يغفرون لبعضهم البعض التصرفات السافلة عن طبيعة مواتية وغريزة لا تدبير فيها ولا منطق لها ... أو هم على الأقل لا يحاولون البحث عن هذا المنطق، فالحقيقة أنهم يلعبون في أرض واحدة ينعدم فيها الخلق وينمحي ما تعارف الناس عليه من أخلاق أو مثل. وأسلحتهم التي يتعاملون بها واحدة لا يختلف سلاح أحدهم عن سلاح الآخر، وفي هذه الظلال من انعدام الخلق الذي اتفقوا عليه دون عقد شفهي أو تحريري كل شيء مباح. فشلبي لم يغفر لفرغلي لأنه طفل طيب يعرف معنى الصفح عن خطأ الصديق، وإنما غفر له لأنه لو كان في مكانه لصنع نفس الصنيع.
وجلس التلميذان متجاورين، وما لبث أن جاء فرحات عبد الباسط، وأعقبه عطية سيد أحمد، وجلس أربعتهم على الدكة.
وبدأ بينهم الحديث عما صنعه كل منهم في الإجازة، ولكن قليلا ما دار الحديث بينهم، فقد فوجئوا جميعا بحركة غير عادية في الفناء. انفرطت الجماعة التي كانت تضم أبناء القرية وتفرقوا في أنحاء شتى يقف كل واحد منهم مع جماعة، ثم ما تلبث عيون هذه الجماعة أن تلتفت إلى حيث يجلس الأربعة ثم يضحكون، ونظر الأربعة بعضهم لبعض لا يدري أحد ما وراء هذه التحركات إلا فرغلي. فقد أيقن في رهبة زلزلت كيانه أن السر الذي لا يعرفه والذي لوى حياته كلها عن طريقها الطبيعي هو الذي ينثر الآن على هذه الجماعات. هو يعرف أن الأمر متعلق به ولكنه لا يعرف ما هو. كانت لحظات ربما اكتملت دقيقة أو دقيقتين لم يدر وإنما كانت اللحظة عمرا مديدا كريها متراخيا متهرئا مقيتا كان يعرف أن شرا يلقي عليه شباكه، ولكن لم يكن يدري أي نوع من الشر ذاك الذي يكيدونه له، لا يدري مداه ولا عمقه ولا لونه ولا مدى الدمار الذي يتغشاه.
أصبح القدماء جميعا عيونا تحيط به من كل متجه، ويسفلها ابتسامة فيها سخرية، وفيها احتقار. وكانت الوجوه المتجهة إليه تحمل سمات الوحش، وقد وجد فريسة هو واثق من افتراسها، فهو يسعى إليها في غير جهد فيضيف إلى لذة الافتراس لذة التمتع بذعر فريسته.
وراحت الجماعات تسعى إلى حيث يجلس وكأنها على التباعد بينها قد تواعدت على اللحظة التي تتحرك فيها في نظام عفوي منسق، وكأنه مرتب في دقة ومهارة.
حتى إذا أحاط تلاميذ المدرسة بالدكة ومن عليها خلع أحد التلاميذ رباط عنقه، وربطه حول وسطه وصاح: على وحدة ونص يا واد.
وسحب لفظة الواد هذه في ميوعة فاجرة، فإذا التلاميذ جميعا وفي لحظة واحدة يصفقون تصفيق المتفرجين على الرقص، وإذ تلميذ آخر يتحزم برباط عنقه، ويدخل إلى الحلبة مع التلميذ الأول.
وينظر أربعة الدكة بعضهم إلى بعض، ويدرك فرغلي أنه المقصود، ولكن لا يدري ما تحمله هذه الرقصات وهذا التصفيق. ويقوم شلبي المبوع ويتبعه عطية ثم فرحات ويبقى فرغلي وحده، وقد انهدم كيانه فالرقص مستمر الآن له وحده، وهو لا يدري ماذا يعنيه هذا الرقص.
Página desconocida