El sermón de la condena interminable en las murallas de la ciudad y Fernando
خطبة الإدانة الطويلة عند سور المدينة وفرناندو
Géneros
تقديم
«كان السؤال الذي شغلني وحركني في جميع مسرحياتي هو هذا السؤال: كيف ينبغي على الإنسان أن يعيش، وما الذي ينبغي عليه أن يفعله؟» .. ولأن السؤال قد طرحته أجيال من الأدباء والمفكرين والبشر العاديين منذ عصور لا تدركها الذاكرة، وسوف تواصل طرحه أجيال أخرى في عصور لا نستطيع أن نتنبأ بطبيعتها وأحوالها، فقد اهتدى السائل - وهو الكاتب المسرحي تانكريد دورست الذي نقدم في هذا الكتاب عملين من أجمل وأشهر أعماله - إلى الحقيقة البسيطة التي تلزمنا بالخضوع لها، دون التوقف في الوقت نفسه عن معاودة طرح السؤال بكل الصيغ والأشكال الممكنة، ألا وهي استحالة التوصل لإجابة نهائية وحيدة عليه، لأن كل الإجابات التي زعمت على مدى التاريخ أنها هي الأخيرة والقاطعة قد ثبت فشلها الذريع، وربما تسبب بعضها في كوارث ومآس لا أول لها ولا آخر .. لهذا لا يدهشنا أن نجد كاتبنا يقول عن مسرحه: إنه هو مسرح الحيرة والتساؤل المستمر الذي يكتفي بإثارة العقل والوجدان ولا يتورط في الزعم الأجوف بتقديم الحقيقة أو الحقائق النهائية، وكأن هذا المسرح يستظل بالعبارة الجدلية الساخرة الشهيرة التي أطلقها سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي أنه لا يعرف سوى أنه لا يعرف، أو بالعبارة المفعمة بالشك والألم التي أطلقها «مونتني» في القرن السادس عشر الميلادي، وكانت - وما تزال - أوجع سخرية من عجز الإنسان وغروره الباطل: ماذا أعرف أو ماذا يمكنني أن أعرف؟
لا عجب إذن أن نجد هذا الكاتب يعترف في مقال مهم سبق تأليفه للمسرحيتين التاليتين وعبر فيه عن رؤيته التي استخلصها من تجاربه ومحاولاته المختلفة في التأليف لمسرح العرائس والسينما والإذاعة المسموعة والمرئية والعروض والألعاب الدرامية المتنوعة، وهو المقال الذي جعل عنوانه: خشبة المسرح هي المكان المطلق (1962): «المسرح في نظري نوع من التجربة؛ إنه المحاولة الدائبة لعرض الإنسان وإظهاره على خشبة المسرح، الإنسان الذي يحيا الآن بكل ما يحركه ويقلقه، وبكل ما يعمله وينتجه وما يقيده كذلك ويحدده. والأدوات التي أتوسل بها في سبيل ذلك قديمة قدم المسرح ذاته: فهي استخدام القناع، والخلط (الناتج عن سوء الفهم)، وإبراز المظاهر المنعكسة، وأسلوب المسرح في المسرح. وهي جميعا تستغل لإظهار وجود الممثل على خشبة المسرح في صورة رائعة ومثيرة للتساؤل في الوقت نفسه، وبذلك نتمكن من وضع أنفسنا - لأننا مشاركون كذلك في التجربة - ووضع أحكامنا وقيمنا ومعاييرنا الاجتماعية وأخلاقنا موضع التساؤل» .. هذه العبارات أو بالأحرى الاعترافات القصيرة تكشف لنا عن الموقف المبدئي لهذا الكاتب من الواقع الشامل، وهو في صميمه موقف يعبر عن علاقته الدرامية أو «التمثيلية» به، ويسري مسرى الدم في شرايين أعماله وأوردتها، ويؤكد نزعتها النقدية الساخرة من روح العصر، ومن البرجوازي الأوروبي أو إنسان الطبقة الوسطى المتزمت الضيق الأفق الذي لا يكاد يشغله شيء في حياته بقدر ما يشغله «الإنجاز» و«التملك»، كما يبين محاولاته المستمرة في تسليط الضوء على الحقيقة الإنسانية العارية البسيطة، حقيقة الإنسان العادي أو «الإنسان الصغير» الذي كان على الدوام هو المحرك الفاعل للتاريخ والضحية الأولى والأخيرة له وللطغاة والمستبدين الكبار والصغار الذين تحكموا وما زالوا يتحكمون فيه ... من هنا كان همه الدائم هو تقديم الدراما الإنسانية - لا التاريخية أو الوثائقية! - على خشبة مسرح إنساني أو عالمي شامل، في عرض أو استعراض تمثيلي يمتع المشاهد العادي، ويدهشه، وربما ينجح أيضا في تغييره أو على الأقل في البقاء في ذاكرته ووعيه مدى الحياة، لا سيما إذا نجح كما قلنا في الكشف عن الحقيقة البشرية العارية من كل غطاء أيديولوجي أو فلسفي أو أخلاقي زاعق، وفي دعوة هذا الإنسان إلى معرفة دوره والقيام به لإنقاذ الأرض التي تندحر وتنحدر إلى حضيض الهاوية دون أن ننتبه لذلك! وحثه على المشاركة في إيقاف الكارثة التي يندفع إليها التاريخ، وتهدد بتدمير الحياة وتخريب الإنسان بعد تجويعه وتعذيبه بفظاعة ووحشية دونها فظاعة الوحوش. •••
ولد تانكريد دورست - مؤلف المسرحيتين التاليتين اللتين ترجع إحداهما لفترة مبكرة من حياته (1961) والأخرى لما قبل سنوات قليلة (1992) - في اليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر سنة 1925 في بلدة «أوبرلند» القريبة من مدينة «زونيبرج» بولاية تورنجن لأسرة يشتغل عائلها بالهندسة وصناعة الآلات. وقد توفي أبوه وهو في السادسة من عمره، ولم يكد يتم تعليمه الأولي والثانوي في موطنه الأصلي حتى استدعي في عام 1942 - وهو بعد في السادسة عشرة من عمره - للانخراط في الجيش، وعانى من أهوال الحرب العالمية الثانية التي كانت على أشدها في ذلك الحين، وتعلم الخشونة والصرامة والطاعة وروح العمل الجماعي، كما تعلم كيف ينظر إلى الواقع المحيط به نظرة المراقب الذي يشك في كل شيء ويسخر من كل طموح وهمي فاسد، حتى وصل إلى الاقتناع ببطلان كل المشروعات العالمية الكبرى وهشاشتها (على نحو ما يعبر بعض أبطاله في مسرحيته الفيلا - 1980 - وهينريش أو آلام المخيلة - 1985) وبعد أن تقلب في معسكرات الاعتقال في بلجيكا وإنجلترا والولايات الأمريكية المتحدة حتى سنة 1947، رجع إلى وطنه، وحاول أن يستأنف دراسته في بامبيرج ثم في ميونخ ابتداء من سنة 1951، حيث أقبل على سماع المحاضرات التي كانت تلقى هناك عن الأدب الألماني وتاريخ الفن وعلوم المسرح. لكن ظروف حياته القاسية حالت دون إتمام دراسته، فراح يبحث عن قوته في أعمال مختلفة ومهن متنوعة أتاحت له الاقتراب من بسطاء الناس والتعرف على حياتهم وهمومهم اليومية: «كانت أحوالي في السنوات الأولى بالغة السوء .. كنت أجلس في حجرتي الضيقة الصغيرة في حي شفابينج (وهو حي الفنانين المشهور في مدينة ميونخ) وأكتب مسرحيات للعرائس لم تدر علي أي إيراد يذكر. لم أستطع في ذلك الحين أن أتصور كيف يمكن أن يكسب الإنسان شيئا من المال. ثم حصلت في سنة 1959 على جائزة من مسرح مدينة مانهايم الوطني عن مشروع مسرحية كتبتها وهي «مجتمع في الخريف»؛ فبدأت أحوالي منذ ذلك الحين في التحسن.»
ولا بد من الانتباه إلى أهمية تلك الفترة التي قضاها دورست في ميونيخ مع أوائل الخمسينيات في التأليف لمسرح العرائس الذي كان يعرف باسم اللعبة الصغيرة، وتأثيرها البالغ على حياته وإنتاجه وأسلوب كتابته المسرحية بوجه عام. فلا شك أن عمله في ذلك المسرح الذي شارك في تأسيسه وإدارته وإخراج تمثيلياته فيه، قد كان له أعمق الأثر على اختياره لموضوعاته من الأساطير القديمة والحكايات الشعبية الشرقية والغربية، والقصص والأمثولات والخرافات والحواديت التي تثير أحلام الأطفال الذين يتوجه إليهم كثيرا بخطابه، كما يعلق عليهم أمله الوحيد في إنقاذ كوكبنا البائس الصغير من أيدي السادة الكبار أصحاب المشروعات الضخمة، وأمله في تحقيق «اليوتوبيا» (المدينة المثالية الفاضلة) التي ثبتت استحالتها وفشلها - كما سبق القول - ولم تعش حتى الآن وربما لن تعيش وتزدهر إلا في خيال الأطفال والفلاسفة والأدباء ... والمهم من كل ذلك أن المسرحيات التجريبية الصغيرة التي كتبها دورست في ذلك الحين مثل مسرحية «المنحنى» (1960) التي نقلها إلى العربية المرحوم الدكتور إبراهيم حمادة ونشرها مع مسرحيات أخرى في كتابه «أقنعة الملائكة» ومسرحية خطبة الإدانة - أو التشهير - الطويلة أمام سور المدينة (1961) التي تجدها في هذا الكتاب، ومسرحية القط ذي الحذاء أو كيف تلعب اللعبة (1963) أقول إن المهم من كل ذلك أن المسرحيات المذكورة قد تأثرت تأثرا مباشرا بكتابته لمسرح العرائس في تلك الحقبة القصيرة من حياته، كما تغلغل تأثيرها أيضا بصورة غير مباشرة في معظم ما كتبه حتى يومنا الحاضر .. وهذه المسرحيات التجريبية الساخرة التي ذكرناها تعبر عن تأثره بمسرح العبث أو اللامعقول من جهة، وبالمسرح الملحمي وأساليبه المختلفة عند بريشت وبعض الكتاب الذين جاءوا بعده - مثل دورنمات وماكس فريش - من جهة أخرى، كما أنها تستفيد من خبرته في التأليف لمسرح العرائس والكتابة عنه (سر مسرح العرائس 1957، ومحاولات عن مسرح العرائس 1959). والواقع أن الموضوعات التي طرقها فيها وعالجها بأشكال وتنويعات مختلفة ظلت تسيطر على بقية مسرحياته، إذ نحس منها أن رؤيته للوجود ذات طابع تمثيلي، كما نلمس محاولاته المستمرة لتقديم لعبة المسرح في المسرح، ونشاهد الكثير من الطقوس الخالية من أي معنى، ونشعر باستحالة التواصل بين البشر الذين يضعون على وجوههم أقنعة لا يلبثون مع مرور الزمن أن يندمجوا فيها ويتحدوا بها بحيث يتعذر عليهم تمييز الوجه من القناع، والدور الذي يؤدونه من الحياة الحقيقية التي يعيشونها.
وفي عقدي الستينيات والسبعينيات تمرس بالعمل في دور النشر والكتابة للسينما والإذاعة المسموعة والمرئية، وترجم عن الفرنسية بعض مسرحيات موليير والكاتب الأيرلندي سين أوكيزي ترجمة جديدة، كما ترجم وأعد للمسرح رواية مفكر عصر التنوير وأديبه المشهور ديدرو وهي ابن أخت رامو (التي سبق أن ترجمها لأول مرة شاعر الألمان الأكبر جوته) وقد قضى سنة 1970 كاتبا مقيما في كلية أوبرلين بولاية أوهيو بالولايات المتحدة الأمريكية، كما قام سنة 1973 بالتدريس في بعض الجامعات في أستراليا ونيوزيلاندا. وربما كانت هذه المرحلة من حياته وإنتاجه قد مهدت لاهتمامه بعد ذلك بالموضوعات التاريخية التي راح يعرضها من زاوية البحث الدائب عن الحقيقة، حيث تناول حياة عدد من كبار الأدباء الغربيين الذين توهموا أن الأدب يمكن أن يصنع ثورة، وأن الكلمة يمكن أن تكون فعلا أو تنوب عن الفعل، وكذلك بعض الأدباء الذين أدينوا بتهمة التعاون مع النازيين وتلويث أقلامهم وأيديهم بوضعها في الأيدي التي تلطخت بالدم والوحشية. ولم يكن هدفه من ذلك هو فضح تلك الشخصيات ولا الصراخ بآراء وأفكار صاخبة عن الحقيقة والحرية، بل اكتشاف أعماقهم الإنسانية، وإثبات فشل الأدب والفن كليهما عندما يتصوران في نفسهما القدرة على حل مشكلات الواقع أو السيطرة عليها. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي بعض مسرحياته التي جلبت له شهرة عالمية، كمسرحية «عصر الجليد» عن واحد من أكبر أدباء النرويج وهو كنوت هامسون (1859-1952) صاحب رواية «الجوع» الشهيرة، ويقدمه دورست من خلال أحد عشر مشهدا تدور في دار استشفاء أو مصحة للعجزة المصابين بالأمراض العقلية والعصبية، وتعرض علينا شخصية هذا العجوز العنيد الواثق بنفسه، والمستمسك بنزعته العدوانية الشرسة نحو المجتمع والناس والجيل الجديد الذي لعنه وأدان وقوفه مع أعداء بلاده من وحوش النازية (وقد ظهرت المسرحية في سلسلة المسرح العالمي الكويتية - العدد 188 - في ترجمة عربية ممتازة مع مقدمة جيدة ووافية). وتذكر في هذا الصدد كذلك مسرحيته «تولر» (1968) عن أديب الحركة التعبيرية الألمانية والثائر الخيالي المتحمس والمنفصم عن الواقع وهو إرنست تولر (1893-1939). الذي كتب مسرحيات مثيرة عن زحف جحافل الآلات والجماهير، وشارك في قيادة ثورة قصيرة العمر عرفت باسم «ثورة ميونيخ»، وأسست ما سمي باسم «جمهورية اللجان الاشتراكية» التي لم تبق على قيد الحياة سوى أسابيع قليلة.
وتتألف المسرحية من لوحات ولقطات استعراضية من الأحداث التي وقعت بين إعلان قيام جمهورية اللجان الاشتراكية وسقوطها في سنة 1919. ولم يكن هدف «دورست» من هذه المسرحية - كما قلنا - هو التوثيق التاريخي، بل كان هدفه هو عرض مشكلة الالتزام السياسي الذي ينخرط فيه المثقف والفنان المبدع في موقف زمني وتاريخي محدد، فيتصور أنه قادر على إبداع الثورة كما أبدع أعماله الفنية، وأن الثورة يمكن أن تصبح فعلا خلاقا كالفعل الإبداعي سواء بسواء .. والواقع أن حماس «تولر» واندفاعه الثوري ينسيانه ضرورة تنظيم الثورة أو إدارتها. ويصور المؤلف «تولر» في صورة ممثل «يلعب» الثورة، بحيث تصبح هذه الثورة نوعا من الأدب، ويحل الانفعال الأدبي محل التنظيم العملي، وتعجز الشعارات الأخلاقية والطموحات المثالية عن حماية الثورة من أعدائها الذين هزموها واعتقلوا وأعدموا أعضاء لجنتها الذين كان معظمهم من الأدباء الذين لا يكفون عن الثرثرة والمناقشات والمحاورات وكأنهم في مهزلة دموية! والمهم أننا نخرج من هذا العرض المسرحي بأن الثورة التي يصممها الأديب لا بد أن تنتهي بأن تكون هي الأخرى أدبا لا صلة له بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يحياه الناس.
وقد اشترك «دورست» في هذه الفترة من حياته مع المخرج المسرحي الشهير بيتر زاديك في إنتاج سيناريوهات أفلام ومسرحيات متنوعة تتناول الأزمات الاجتماعية وعجز المثقفين وتناقضاتهم في التعامل معها، مثل الاغتيال الأحمر أو كنت ألمانيا (1969)، ورمل (1971) وعصر الجليد (1973) وجونكورا وإلغاء الموت (1977)، وهو يعمد فيها جميعا إلى إثارة المتفرج بدلا من وعظه، وذلك مع افتراض نضج هذا المتفرج وقدرته على تحمل مسئولياته الأخلاقية. وقد تبعت ذلك سيناريوهات أفلام سينمائية وتليفزيونية متعددة منها دور وتيا ميرتس (1976)، وأم كلارا (1978) وموش (1980) بالإضافة إلى مسرحياته الألمانية التي يتناول فيها علاقته التمثيلية بالتاريخ المعاصر من خلال قصة حياته وحياة عائلته وموقفه النقدي من الواقع الاجتماعي في ألمانيا منذ عهد جمهورية فيمار في العشرينيات حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين، مثل فوق الشيباروزو (1974) والفيلا (1980) وهينريش أو آلام المخيلة (1980)، وأخيرا نذكر السيناريو الذي كتبه بعنوان «البستان المحرم» (1983) عن شاعر إيطاليا الكبير جابربيل دانوننزيو (1863-1938) الذي اتهم بوضع يده في أيدي الفاشيين، كما كان آخر دعاة البطولة والقوة والنشوة بالعنف والرعب سبيلا للانتصار المزعوم على الركود والضعف والموت، وتحقيق «الخلود» الوهمي عن طريق عبادة الشعر والجمال اللذين يضيفان - في نظر ذلك الشاعر الكبير المعتوه - غلالتهما السحرية المسمومة حول جسد الواقع والإنسان العادي والحقيقة العارية المباشرة والبسيطة .. وتذكر في هذا السياق أيضا مسرحيته الشعبية التي تلجأ لأسلوب العرض أو الاستعراض الغنائي والموسيقي في مناظر متتالية تشبه لقطات حية منتزعة من واقع الأحوال المعيشية البائسة خلال الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي اجتاحت أوروبا في الثلاثينيات وسبقت استيلاء النازيين على السلطة في سنة 1933. والمسرحية التي نقصدها وهي «أيها الإنسان الصغير، ما العمل الآن؟» مأخوذة مع عنوانها نفسه من رواية حققت شهرة واسعة في تلك السنوات العجاف للأديب الواقعي هانز فالادا (1893-1947) الذي كتبها في سنة 1932، وظلت هي تاج إنتاجه الروائي الذي يكاد يدور حول موضوع واحد هو هموم الرجل العادي ومتاعبه وسط عالم يسحقه ويحبطه كل يوم، ولكنه لا يستسلم أبدا لهذا الإحباط، بل يفتح لنفسه فتحة في جدار الواقع المظلم الصلب لينفذ منه ويرتفع فوقه ولو بأجنحة الحلم والخيال. وقد عرض فيها دورست - على طريقة الكباريه أو الجريدة الغنائية والموسيقية - مشاهد ولوحات شديدة التنوع عن ألوان العذاب والضياع والمهانة التي يلقاها زوجان شابان ربط بينهما الحب الحقيقي وحاول عبثا حراس الحصار المطبق عليهما من ذئاب المال والأعمال أن يستغلوا جمال الزوجة وفقر الزوج في تمريغهما في الوحل وتلطيخهما بالعار، ولكن الزوجين المحبين يفضلان في آخر المطاف أن ينهيا مأساة جحيمهما الأرضي بالموت الإرادي - وربما غير الإرادي بسبب الجوع والإرهاق! - فيرتفعان معا كحمامتين حزينتين وغاضبتين إلى رحاب فردوس سماوي يعوضهما عن ظلم الأرض وبشاعة أهلها وخراب ذممهم ونظامهم الاجتماعي والسياسي الذي لم يستطع أن يوفر لهما الكفاف من خبز العدل والرحمة.
والظاهر أن هذه الإعدادات السينمائية والاستعراضية المتنوعة لم تستطع أن تشبع طموحه لإنجاز عمل مسرحي كبير يضع فيه خبرته الطويلة وحنينه الدائم لأجواء الحكاية الشعبية وميله المستمر لمزج الماضي بالحاضر والخرافة بالواقع في لوحات متتالية تحمل انتقاداته للحياة الاجتماعية والنفسية التي يكابدها الناس على أرض الواقع. ولهذا تجده يتجه في سنة 1981 إلى كتابة عمل شامل استوحى مادته من الحكايات المشهورة في العصر الوسيط - القرن الثاني عشر الميلادي - عن الملك آرتوس وفرسان المائدة المستديرة، وهذا العمل الشامل هو مسرحيته الطويلة «ميرلين أو الأرض الخراب» - التي تتألف من سبعة وتسعين منظرا يستغرق عرضها ما يقرب من عشر ساعات في ليلتين متتاليتين! - تدور حول موضوع أثير لدى المثقفين الساخطين منذ أفلاطون على أقل تقدير على واقعهم المتردي، كما أثارته الأحداث الأخيرة بعد السقوط المدوي للتطبيق الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي السابق والدول التي كانت تدور في فلكه، وهو موضوع فشل اليوتوبيات (أو المدن المثالية الفاضلة) .. فالساحر ميرلين الذي كان مولده ثمرة الزواج العجيب لشيطان من عذراء، يكلفه أبوه بأن ينزع من قلوب البشر الخوف من الشر. ولكن ميرلين يرفض القيام بهذه المهمة، ويصمم على تجاربه مع الخير الكامن في نفوس البشر، وينجح في إقناع الملك أرتوس بجمع أبطال العصر وفرسانه حول مائدته ليقيموا النظام العادل في هذا العالم. غير أن صراعات الحقد والحسد القاتلة سرعان ما تدب بين فرسان المائدة المستديرة، ويكتشف ميرلين أنه يقف على أرض خراب (إيماء لقصيدة إليوت المشهورة) اختفى منها كل أمل في العدل والخير، وكل رجاء في تحقيق اليوتوبيا على هذه الأرض، كما يكتشف في النهاية أنه حقق رغبة أبيه دون أن يدري. ويودع ميرلين التاريخ البشري كله بعد أن تأكد من غباء أبطاله وفرسانه الجوف: لقد سئمت منهم جميعا! لا أريد أن أرى أي واحد منهم! لا الأخلاقي ولا الاشتراكي ولا الرأسمالي ولا البنيوي! وتساعده حورية الغاب فيفيانه على أن ينفي نفسه بنفسه في دغل شوكي كثيف يلوذ فيه بسكون الطبيعة وسكينتها الأبدية من فظائع التاريخ البشري، بينما يستمر الصراع خارج الدغل، وترجع الآلهة الوثنية إلى حلبة القتال بعد أن طردها السيد المسيح في بداية المسرحية.
وفي النهاية نذكر فيلمه السينمائي «هانز الحديدي» (1983) الذي يدور حول عجز الناس ويأسهم في إحدى المدن الصغيرة على الحدود مع ألمانيا الشرقية السابقة، وكذلك «أنا فوبرباخ» الذي يصور عجز الفنان وسقوطه ضحية تناقضاته الذاتية التي تصطدم مع تناقضات مجتمع يفترسه القلق والإحساس العام بالرعب والخراب وطغيان الشر عليه إلى حد اليأس من إمكان الخلاص. وفي هذا الخط أيضا تدور مسرحية كوربيس (1988) التي اعتمد فيها على إحدى الحكايات الشعبية القديمة .. بقي أن نقول إنه يعيش ويعمل منذ أوائل السبعينيات مع الكاتبة والمترجمة أورزولا إيلر التي شاركته في كتابة عدد كبير من أعماله، ومنها إحدى المسرحيتين التاليتين. •••
Página desconocida