كذلك كان عبد الهادي، وهكذا نفى الله عنه أبهة الرئاسة المظهرية؛ فلا هو صاحب غرور ولا تكبر، وما لرئاسته مراسم مظهرية ولا طبل ولا زمر. وربما كان لا يدري أن الناس يتخذونه في نفوسهم رئيسا لهم، ولكنه - لا شك - كان يعرف أن الناس يحبونه؛ لأنه كان على ثقة أنه يحب الناس ويسعد أن يقيل عثرة من أنزل الدهر به عثرة، ويهنأ أن يمد من احتاج بحاجته، وتملأ نفسه البهجة إن وقف بجانب أسرة كانت ذات عزة وكرامة وأراد الدهر أن يعدو عليها.
كانت دار عبد الهادي موئلا لمن حاولت الحياة أن تزعزع مستقرهم، يجدون فيه النفس الراضية تسمع وتواسي، ويجدون إلى جانب الكلمة العادلة كرم المال والنفس يقدمه عبد الهادي مما حباه الله به من مال. وقد كان غنى عبد الهادي غنى واسعا، ولكن الناس أحبت له هذا الغنى؛ لأنه كان يعتبر ماله مال كل محتاج وكل أخ في الإنسانية حزبته من الحياة ضائقة.
وكان عبد الهادي أيضا لا يبخل بجهده عند الشدة؛ فإن له في أعيان مصر صلات وصداقات، وما تأخر يوما عن سعي حثيث في سبيل خير أو بعض خير قد يعود على قاصده ...
وكان أخو عبد الهادي أصغر منه بسنوات عديدة، وكان منه بمثابة الابن تماما؛ فإن عبد الهادي فقد أمه وهو يقارب العشرين من عمره. وكان أبوه الحاج رافع النقيب في الخمسين من عمره، فتزوج بعد وفاة أم عبد الهادي بعامين، واختار لنفسه عروسا من أسرة النوافعة، توفي عنها زوجها وهي في الثانية والثلاثين من عمرها. ولم يمتد زواجها الأول بما يسمح لها أن تهب الحياة أبناء؛ فحين تزوج منها الحاج رافع وهبت له عبد الوارث بعد سنتين من زواجهما.
وهكذا كان عبد الهادي بمثابة الوالد لعبد الوارث. وقد كان الحاج رافع يمزح دائما وهو يقول: عبد الهادي أخذ مني عبد الوارث؛ فأنا لا أعرف من شأنه شيئا، هو الذي يرعاه. لعل هذا يقنعه أن له ابنا ما دام قد مضى على زواجه سنتان ولم ينجب.
وقد كان عدم إنجاب عبد الهادي هو الغصة التي يشقى بها عبد الهادي؛ فقد كان أمله أن ينجب، وكان يقول لأصدقائه: «الأبناء للآباء حياة أخرى، وإن كانوا يأكلون الحياة الأولى. أرى جزع الآباء على بنيهم فأكاد أحمد الله أن ليس لي بنون، ولكنني ما ألبث أن أتمنى أن أصاب بهذا الجزع وأن أظل على ولدي ملهوفا لهفة كفيلة أن تمحو كل سعادة في حياتي، ولكنها في ذاتها سعادة لا تعدلها سعادات العالم أجمع.»
كان يقول لأصدقائه:
إنني أتمنى أن أرى بنفسي ولدي، ولن أحاول أن أتظاهر بالرضى أنني لم أنجب . لا، أنا أريد أن أنجب مهما يكن في الإنجاب من رعب يتولى الأب نحو بنيه، ومهما يكن في الإنجاب من إنفاق للصحة والمال، ومهما يكن الابن مجلبة للقلق يتولى الأب بين أمل يهفو إليه وحقيقة تطالعه، وذعر يتولاه أن يصاب ابنه بمكروه. مهما يكن هينا هذا المكروه، أريد أن أنجب، مع علمي بالهلع الذي يتولى الآباء على أبنائهم. إن هذا الهلع عندي سعادة. ويل للأب إن أصيب الابن بجرح. وما أعظم الهول الذي يلقاه الأب إذا قدر الله عليه أن يواري ابنه التراب! ولكني ومع علمي بكل هذه الأهوال أريد ابنا.
حين مات الحاج رافع كان عبد الوارث في الثامنة من عمره، فكان عبد الهادي منذ هذه السن الباكرة بمثابة الأب له.
ولكن ليس في العالم إنسان يستطيع أن يكون مكان الأب مطلقا. كان عبد الهادي يخشى أن يقسو على أخيه؛ لأنه ليس ابنه، والأبوة تحتاج، رغم أنفها، إلى بعض القسوة في كثير من الأحيان. وهكذا لم يكن غريبا أن يتعثر عبد الوارث في الدراسة ولا يستطيع عبد الهادي إزاءه إلا أن يعنفه تعنيفا هينا لم يصل إلى الشدة قط.
Página desconocida