Resumen Diario y Fragmentos
خلاصة اليومية والشذور
Géneros
كلمة
1 - خلاصة اليومية
2 - الشذور
كلمة
1 - خلاصة اليومية
2 - الشذور
خلاصة اليومية والشذور
خلاصة اليومية والشذور
تأليف
عباس محمود العقاد
Página desconocida
كلمة
من أراد أن يقرأ عن الناس والعالم ما يسره، فليخلق للكتاب ناسا جددا في عالم جديد.
تدور هذه النبذة على نقط ثلاث:
أولا:
أن كل ظواهر هذا الكون، علويها وسفليها، ظاهرها وباطنها نتيجة تفاعل «القوى» المختلفة، وكذلك الأمر في الاجتماع البشري.
ثانيا:
أن اللذة والألم، وبعبارة أعم، المنفعة والضرر هما الدعامتان اللتان عليهما تقوم كافة الأخلاق البشرية.
ثالثا:
أن الإنسان حيوان راق، ولكنه لا يزال حيوانا، فمن كان فخورا بعالمه شديد الاعتداد بإنسانيته فهي لا تروقه وربما نفر منها طبعه، ومن كان يقرأ ليقتنع أكثر مما يقرأ ليرضى فإياه عنيت بنشر هذه اليوميات.
عباس محمود العقاد
Página desconocida
الفصل الأول
خلاصة اليومية
الجامعة الإنسانية
إن انفراد كل صقع بخصوصية تميزه عن سواه، وتقدم الناس إلى الاشتراك جميعا في الحاجة إلى تلك الخصوصيات بنسبة اتساع مطالبهم تبعا لتقدم العمران؛ مما يدل على أن كل الناس مرتبطون بكل الأرض، وأن حواجز الأوطان ستطمس معالمها لتصير الأرض الوطن العام لنوع الإنسان.
وهذه الحركة الاقتصادية التي جاذبت بين أبعد الشعوب لتبادل المنفعة ستؤدي حتما إلى توحد المصالح العامة بين الأمم؛ بحيث تتضامن كلها في الانفعال بالعوامل الاقتصادية التي تؤثر على بعضها، وهو ما يؤذن بانقضاء الحروب وسيادة السكينة والسلام.
وما زالت العوامل الاجتماعية منذ القدم تقذف بالإنسان في دائرة أشبه بزرد الماء يتسع محيطها شيئا فشيئا؛ فيشمل في كل دور ما كان خارجا عنه في الدور الذي تقدمه، فأن تكون القبيلة من العائلة والشعب من القبيلة والأمة من الشعب والجامعة من الأمة يؤذن بأن الخطوة التالية ستتقدم بنا إلى الغاية التي طالما اشتغل كبار المصلحين لتحقيقها؛ وهي دخول أمم الأرض جمعاء تحت لواء جامعة واحدة، وهي الجامعة الإنسانية.
الفضيلة والرذيلة
الفضيلة والرذيلة كلمتان لما اصطلح جماعات الناس على الاعتراف به أو إنكاره باعتبار نفعه أو ضرره، والمعروف والمنكر وهما من مرادفاتهما في العربية تؤديان هذا المعنى تمام الأداء، فما كان يعد فضيلة عند قوم يعد رذيلة عند قوم آخرين تبعا لما ينجم عنه من النفع أو الضرر عند كل منهما، وربما العمل الواحد في الأمة الواحدة يعتبر فضيلة في هذا الزمن أو ذاك ورذيلة في زمن آخر.
انحطاط الشرق
علة انحطاط الشرقيين أنهم جعلوا لتنازع البقاء ميدانين، فلم يبالوا أن يخسروا الصفقة في هذا العالم ليغنموها في العالم الآخر، وساعدهم على ترك الاشتغال بشئون هذا العالم أن خصب الطبيعة في الشرق قد جعل طلب الضرورات المعيشية مما لا يلجئ إلى التدافع والزحام، كما هي الحالة في الأصقاع التي لا يأتي فيها استثمار الرزق وتوفير أسباب الحياة إلا بوسائط الكد والاستنباط، فكانت الدعة والرخاء من أكبر العوامل التي صرفتهم عن عالمهم إلى تطلب السعادة الكمالية في سواه.
Página desconocida
جنون النبوغ
إذا كان الجنون بنوع ما عبارة عن مخالفة ما جرى عليه العرف بين الناس فالنبوغ نوع من الجنون، فإن النابغة يستهين بالتقاليد المرعية بين الجمهور؛ لأنه لا يعرف وجها للتمسك بها، إما لأنها عقيمة في ذاتها أو لأنها كانت صالحة أو ضرورية في زمن من الأزمان، ثم عادت غير ضرورية في الوقت الحاضر.
التشبيه الشعري
ملكة التشبيه تقوى حيث تضيق دائرة الأشياء؛ فإن المتكلم يحاول أن يقرب إلى سامعه ما لا يعرفه وهو كثير بتشبيهه بشيء مما يعرفه وهو قليل؛ ومن ثم كان أهل البدو والريف أقدر على التشبيه من الحضريين وسكان الأمصار، ولقد كان الشاعر دائما أسبق من العالم في التاريخ؛ فإن الإنسان يحس أولا ثم يفكر، فتسخو القرائح في عهد البداوة، وينبغ الشعراء في الأنحاء التي لم يستبحر فيها العمران أكثر مما ينبغون في غيرها.
إرادة المصري
المصريون لم يشعروا بافتقارهم إلى الإرادة إلا بعد أن قسرتهم المزاحمة الأجنبية على الأعمال التي للإرادة دخل فيها، فأما قبل ذلك فكانت أعمالهم من أغنى الأعمال عنها، فلا اعتدال الجو ولا ارتفاع النيل ولا امتناع الآفات ولا جودة المحصول مما يترتب على توجيه إرادة الزارع، بل كل ما يحتاج إليه في صناعته شغل آلي شاق بعيد عن إشراف القوى العقلية.
بقايا الحيوانية في الإنسان
العواطف عبارة عن انفعالات جسدانية لا سلطان لأعمال العقل عليها، وهي في الإنسان راجعة إلى أقدم عهده بالهمجية، بل بالحيوانية الأولى أيام كانت كل أمياله وأطواره أفعالا تقوم بها وظائف جسده من تلقاء نفسها حسب مطالبها من سد جوعة أو قضاء شهوة أو ري ظمأ أو دفع أذى؛ فالرجل الهمجي، ومثله الجاهل الفطري، ليست مدركته إلا مجموعة إحساسات عالية أو خسيسة، ليس للنظر والتروي مجال بينها، وما كان في جميع حالاته إلا آلة تقذف بها طبيعته حيث شاءت، ولكنه في المجتمعات الراقية حيث يرتبط الرجل مع بقية الأفراد بواجبات وأصول جبرية ولا يعود حيوانا مرسلا مع أهوائه وشهواته، يضطر بحكم البيئة إلى الضغط على عواطفه انصياعا لأحكام المصلحة والعقل، ويزداد كلما ازداد الإنسان حاجة إلى التعقل والاستغناء عن قوة الساعد في حفظ ذاته.
فالقليل الذي بقي من عواطفنا وأميالنا اللدنية التي لا تجيبنا إذا سألناها لماذا مصيره إلى التواري والاختفاء حتى يسود حكم العقل على جميع أعمال الإنسان.
العمل والأمل
Página desconocida
الغربي والشرقي يتشابهان في أن لكل منهما غرضا من حياته، ولكنهما يتفاوتان في التوفيق بين الأمل والقدرة على تحقيقه، فالغربي إذا طمح إلى أمر عمد إليه من طريقه، فالجندي يحاول أن يكون قائدا والدرزي تاجرا والصانع صاحب معمل وهلم جرا، أما الشرقي فأمله مبهم غامض لا تتميز له وسيلة ولا تتضح إليه سبيل. يحب كل إنسان أن يكون أحسن إنسان كما لو كان يحب ذلك لإنسان سواه؛ أي من غير أن يأخذ للأمر أهبته أو يدبر له عدته، فكثر في أقاصيصنا ذكر أمثال: شبيك لبيك، وبساط الريح، وطاقية الإخفاء، وقضيب السحر، ومسحوق الكيمياء، وغيرها مما يرد في ألف ليلة والأحاجي التي يقصها عجائزنا على أسماع صغارنا قبل أن تفتح لهم أبواب الآمال، فينشئون على التراخي والتواكل وترك تحقيق أمانيهم إلى المصادفة والاتفاق.
الفيلسوف
ليس الفيلسوف صاحب المذهب الشاذ أو المبدأ الغريب، ولا هو بالرجل الواسع الاطلاع أو المتفوق على غيره في ملكاته ومواهبه. الفيلسوف الحقيقي هو الباحث الذي لا ينشد إلا الحقيقة، ينشدها لا ليراها في شكل منتظم أو هيئة مرموقة أو ينظر إليها في ظل مبدأ من المبادئ فيكيفها كما ترسم مخيلته وتوحي إليه موروثاته ومعتقداته وأغراضه، ولكن لتظهر أمامه كما هي بالوجه الذي تظهر به في كل آن عارية عن غواشي البراقش والزركشات، وهو المفكر الذي لا يتسلط عليه رأي من الآراء أو يملك ذهنه غرض من الأغراض، بل يأخذ في البحث سواء لديه على أي نتيجة طلع منه، فليس فيلسوفا ذلك الباحث الذي يقدم على موضوعه برأي مبدئي يتشيع إليه فيما هو بصدده، أو ذلك السفسطائي الذي لا هم له من أبحاثه إلا أن يجد له برهانا يسند إليه ما تلقاه من غيره عن طريق الوراثة أو التلقين.
الحسد
ليس الحاسد هو الذي يطمع أن يساويك بأن يرقى إليك، بل هو الذي يريد أن تساويه بأن تنزل إليه؛ ومن هذا القبيل الرجل العياب الذي يتتبع عورات الناس وسقطاتهم لينزل بهم إلى مستواه ويتغافل عن حسناتهم عمدا؛ لأنه يعلم من نفسه العجز عن الإتيان بمثلها.
المطالعة والتجارب
التجارب لا تقرأ في الكتب، ولكن الكتب تساعد على الانتفاع بالتجارب.
الشعر والألفاظ
الشعر صناعة توليد العواطف بواسطة الكلام، والشاعر هو كل عارف بأساليب توليدها بهذه الواسطة، يستخدم الألفاظ والقوالب والاستعارات التي تبعث توا في نفس القارئ ما يقوم بخاطره - أي الشاعر - من الصورة الذهنية. والألفاظ نوع من اختزال المعاني تشير إلى ما لا يمكن وروده منها على اللسان، أو هي رموز يقترن كل منها بخواطر وملابسات تتيقظ في الذهن متى طرقه ذلك اللفظ، ولا يشترك فيها معه لفظ آخر وإن ترادفا في ظاهر المعنى، فالمترادفات لا تتشابه في المدلول تماما، والكلمة في لغة لا تفيد معنى مقابلتها في لغة أخرى؛ فليست المعاني منطوية في أحرف كلماتها، ولكنها ترمز إليها، ولا مجرد النطق بكلمة يكفي لاستحضار معناها عند كل من يسمعها على السواء، فتختلف الكلمة الواحدة في قوة استحضار المعنى باختلاف مدلولاتها وملابساتها عند السامعين، والتفطن إلى هذا الفرق الدقيق بين معاني الألفاظ والتلطف في أداء كل منها في موضعه يدخلان في الملكة التي يحتاجها الشاعر ليكون شاعرا مجيدا، ولا بد لها من أن يكون للشاعر استعداد فطري لتلقي العوارض والمؤثرات التي تقع تحت شواعره حتى يلم بأسرار النفس وكيفية تطرق الإحساسات المختلفة إليها، وأن يكون قد انطبع في ذهنه نخبة من صور تلك الإحساسات ممثلة في قوالب جماعة من فحول الشعراء ليعلم بالمقارنة بينها أيها أحكم تمثيلا وأبلغ وقعا وأسرع توجها إلى العاطفة المخاطبة به حتى يتسنى له أن ينقل ما يشاء منها إلى نفس غيره، ولا يحتاج الأمر في الشعر إلى الجلاء والإبانة كما هو في النثر، فإنه كما تقدم يقصد به التأثير ولا يقصد به الإقناع، والعواطف قد تتأثر بالعبارة المفاجئة أشد من تأثرها بالعبارة ذات القضايا المرتبة والمعاني الجلية.
فقل أن ترى كبار الشعراء يتكلفون الشرح والتفصيل فيما يردون الإعراب عنه كما يتكلفهما المبتدئون منهم؛ لأنهم أخبر بوسائل التأثير وأعرف بالألفاظ التي لها وقع أبلغ من غيرها على الإحساس.
Página desconocida
حب الظهور
الشغف باستلفات الأنظار عام بين جميع الناس، ولكن منهم قوما يظهر كأنهم يطلبونه بألسنتهم وقوما كأنهم يحرزونه بالرغم منهم ومن الناس.
التعصب الديني في المستقبل
طبيعة الدين ليست عدائية وإن ظهر لأول وهلة كأن في هذا القول شيئا من المخالفة للواقع.
حفظ الذات أقوى غرائز النفس الإنسانية، والعواطف المتفرعة عنه أقوى العواطف، تحرك الإنسان المؤثرات، أولا تحركه بقدر ما تمس هذه الغريزة، والإنسان بطبيعته في حالة سلم مع بقية الناس، فالنزاع عارض طرأ من اشتراك إنسانين فأكثر في الحاجة إلى العروض الخارجية، وإن مجرد وجود تلك العروض بحالة لا يظفر بها إلا من غلب، بين فريقين متساويين في الحاجة إليها وعدم الاستغناء عنها، يحسب في ذاته إعلانا من كل منهما صريحا بإشهار الحرب إلى أن يظفر أحدهما بحاجته.
فالدين باعتباره عقيدة مجردة لا يقتضي نزاعا بين الناس، إلا إذا تجاوز حيز العقائد إلى الأشياء الخارجية التي تدخل في معاملات الإنسان، كما يشاهد في الأمم المتأخرة التي تجهل العلاقة الحقيقية بين الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات، وأكثر ما يشاهد ذلك في أمم القرون الوسطى وما تقدمها من عصور الكهانة والسحر.
فقد مر عهد - ليس بالبعيد - كانت الصلة بين العاطفة الدينية وغريزة حفظ الذات من أحكم الصلات، لا بالنظر إلى مستقبل الإنسان في العالم الآخر فقط، بل بالنظر إلى حياتنا في هذا العالم أيضا، فكان فرعون وشعبه يشربون دما أحمر من نيلنا العذب؛ لأنهم لم يشاءوا أن يدخلوا في دين بني إسرائيل.
كان كل شيء في ذلك العهد إنما يحدث بإشراف القوى الخفية مباشرة؛ فكان للسحاب عمال يسوقونه من بلد إلى بلد، وللرياح والبحار خزنة يصرفونها بتقدير ويمسكونها بتقدير، وكانت العوارض السماوية من كسوف وخسوف وهالات ومذنبات ورجوم ترصد من الأرض تارة كأنها إنذار السخط وتارة كأنها علامة الرضى، وكانت الطواعين والأوبئة والمجاعات والصواعق والزلازل والطوفانات وغيرها من الجوائح الطبيعية تفسر كأنها نقمة الله حاقت بالجنس البشري عقابا له على طغيانه وعصيانه، أما استنزال هذه البلايا - فمع كونه كان مترتبا على مخالفة الإرادة الإلهية - فإنه من حق طائفة اصطفاها الله من بين خلقه واختصها بعلم ما يرضيه وما يسخطه فلا ترد لها كلمة عنده، ففي ذلك العهد الحافل بكل هذه الجهالات ما كان الغريب أن يندفع الناس إلى الشقاق بسبب الدين، بل في الحقيقة بسبب كل شيء، ومن أجل كل شيء يمكن أن يكون باعثا على الشقاق؛ لأن هذا كان معنى الدين في تلك العصور.
الحروب الصليبية
ويظهر في مبدأ الأمر كأن العقل الإنساني استتر، وكأن الضمير العام تنحى عن عمله ردحا من الزمن ثارت في أثنائه الحروب الصليبية بكل غرائبها التي أغرب ما فيها أن يمر بها الإنسان قرنا ولا يدرك مقدار فظاعتها وشناعتها.
Página desconocida
والعقل الإنساني لم يستتر ولا تخدر، بل كان على أتم ما يكون عليه عقل المجاميع في مثل تلك الأيام، فكان الصليبيون يعاودون الكرة في كل حملة بعزم متجدد وأسف على فوات الفرصة منهم في الحملة التي تقدمتها لا شائبة فيه للندم، فلم تكن تلك الحروب ثورات حنق أو اندفاعات حماسة دينية، وإنما هي حروب أصولية لم يفتها شيء مما يسبق حروب اليوم من التدبر وإعمال الروية في جوهرية الأسباب وقيمتها من الأهمية. ونحن نغالي في تزكية أنفسنا إذا ظننا أننا نصنع غير ما صنعوا لو أننا كنا موضعهم محاطين بمثل الظروف التي كانوا محاطين بها.
فهذا العالم الذي نراه أمامنا كان في نظر آبائنا عالما مسحورا، الباطن فيه أكثر من الظاهر، فكان مقسوما إلى منطقتين، استولى الله على إحداهما وتنازل للشيطان عن الأخرى، والناس مختلفون في رقم خريطته، فما كان عند هذا الفريق من منطقة الله يعده الفريق الآخر من منطقة الشيطان.
فالصليبيون أغاروا على المشرق ليستخلصوا علم الله المقدس من حوزة أعدائه، ولو سكتوا عنه لما كانوا أهلا لأن يختارهم الله ويجعلهم شعبه، ولا يرضون ذلك لأنفسهم إلا إذا رضوا لها أن يجردوها من كل صفات النخوة والشهامة؛ وهي كل ذخر الرجل وفخره في ذلك الزمان.
ومع ذلك فالخيار بين الرضاء بهذه المسبة وبين فظائع الحروب الصليبية لم يكن بالأمر العسير لولا خشية العقاب، فأي بلاء وأي شقاء لا ينزله الله بهذا الذي ينفض من حوله علمه ويتركه لأعدائه؟ إن إحباط المسعى وإمحال الزرع وتفشي الوباء أقل ما يتوقع من الجزاء على هذا النكوص المعيب!
وقد كانت العداوات تستقر وتهدأ بعد الوقائع الأولى لولا أن انقسم العدوان المتقاتلان بطبيعة الإقليم إلى شطرين - شرق وغرب. متقدم ومتأخر. ضعيف وقوي. طامع ومطموع فيه - بطبيعة موقعهما لا يمكن إلا أن يتجدد العداء بينهما كلما عرضت أسباب الخلاف، وهي كثيرة لا تخلو منها معاملة من معاملاتهما المتبادلة.
التعصب في العصر الحاضر
هل يخشى أن تعود الإنسانية إلى مثل هذه المواقف في الأجيال المستقبلة؟
كلا! فالدين قد نصلت صبغته عن العروض الخارجية. تقدمت العلوم الطبيعية فعرف الإنسان علل الأشياء وكيف ولماذا تحدث، وأيقن أنها لا تحدث من أجله ولا من أجل عمله، لم يعد رجال الدين وكلاء أشغال الله على الأرض يبيعون الرحمة والرزق لعباده بالمال، وفي وكالاتهم وحوانيتهم التي يسمونها المساجد والكنائس، ولكنهم انقلبوا رجالا كبقية الرجال ليس فيهم من السر إلا ما في كل إنسان. عرف الإنسان من أين تأتيه المنفعة ومن أين تأتيه الخسارة، وأدرك أن تلك الطائفة لا يد لها على هذه ولا على تلك، وأنه لا يحق له أن يبحث عن السبب في كلتيهما إلا في عنايته أو تقصيره فيما هو آخذ فيه. عرف أيضا أن الأديان لا تجعل الإنسان نجسا بطبيعته ولا طاهرا بطبيعته؛ فهو لا يطلب من الإنسان كيفما كان معتقده الديني إلا ما تقتضيه إنسانيته، وهي لا تستلزم أن يكون مسلما أو مسيحيا أو يهوديا، ولكن كل ما تستلزمه أن يكون عضوا عاملا في بنية الهيئة الاجتماعية، وبعد أن كان كله في قبضة ما وراء المادة أصبح للمادة كله، وارتدت الدينيات من العقل إلى زاوية ضيقة بعيدة عن مشاغل الحياة وعلائق الإنسان بالإنسان، ومن الأرض إلى بقاع مقصورة على المعابد والمساجد والبيع. وهكذا كلما انحسر الدين عن بقعة عادت مجال وفاق ووئام بعد أن كانت ميدان نضال وخصام.
تقليد النساء
النساء أسرع تقليدا؛ لأنهن أشد غيرة. وهن أشد غيرة؛ لأن المشاكلة بينهن في المناقب والمفاخر أقرب مما هي بين الرجال.
Página desconocida
دلالة القصص على درجة الأفكار في الأمم
من العلامات على انحطاط الفكر ولوعه بالإغراق والإغراب، فإن ذلك ليس معناه في الحقيقة إلا الجهل بحقائق الأمور؛ ولذلك يعمد القصاص والرحالون في الشعوب المتأخرة إلى تجسيم الحوادث والمبالغة في وصف أبطالهم والتهويل في الأخطار التي يفلتون منها، وتكبير المغانم التي يصادفونها على غير انتظار، والمشقات التي يلاقونها في السياحات والأسفار؛ لعلهم أنهم لا يتمكنون من استفزاز استغراب قرائهم بغير ذلك، فيتوهم القارئ وهو يتصفح إحدى تلك الأقاصيص أن صاحبها يتكلم عن أناس من غير هؤلاء الناس، وأنهم يقطنون بلادا ليست كهذه البلاد، بخلاف قصص العصريين فإنها لا تتضمن إلا وقائع يكاد يشاهدها كل إنسان في البيوت وعلى قوارع الطرقات.
وعلى هذا القياس مبالغات الشعراء والمؤرخين؛ فإنها تقل بقدر انتشار المعارف في الأمة وتقدم أبنائها في الوقوف على الحقائق والاهتمام بالجواهر دون الأعراض.
أخلاق الفرد والجماعة
الخلال الشخصية المستحبة لا يمكن أن تستمد أصولها من مصدر أشرف من كونها صالحة لحفظ الحياة، وكذلك الأخلاق الاجتماعية فإنها لا ترد إلى أكبر من كونها لازمة لصيانة كيان الجمعيات البشرية، والجماهير تقدم رجل العموميات وإن كانت تنقصه الخلال الشخصية على رجل الخصوصيات، وإن كان مستكملا من هذه الوجهة؛ لأنها تستفيد من الأول بأكثر مما تستفيد من الثاني.
الجماعات والأغنام
طالما تذكرت أغنام السودان وأنا أقرأ نظرية جوستاف لوبون في كتابه «روح الاجتماع»: «أن الجماعات أسلس قيادا من الأفراد.» فإن قيادة شاة واحدة من تلك الأغنام عمل شاق يعيا به أشداء الرجال، مع أن سوق قطيع كبير منها لا يحتاج إلى أكثر من ثلاثة أطفال صغار.
جوقة العالم
العالم بأسره يشترك في تمثيل رواية مضحكة، وأدعى مناظرها إلى الضحك أنهم لا يضحكون من أنفسهم وهم يمثلون كأنهم جادون فيما يعملون.
المضحكات
Página desconocida
المضحكات ليست بالقليلة، ولكن الذين يحسنون صناعة الضحك هم القليلون، فليس من الضروري أن نفتش عن رجل من أمثال أبطال موليير لنغرب في الضحك؛ فإن في كل رجل من الذين نراهم ونعاشرهم موطنا للنقص وفي كل عمل موضعا للكلفة والتصنع، والوادع الناعم البال ولو كان مغمورا بالشقاء، ذلك الرجل الذي يعرف كيف يفطن إلى مواطن الغرور والرياء من أعمال الإنسان فإنه لا يطبق فمه ما دام يفتح عينيه.
الجمال والجلال
النفس الإنسانية يتنازعها عاملان قويان، هما حب الحياة والخوف من الموت، وبهذين العاملين يتعلق الشعور بالجميل والجليل؛ فالجميل كل ما حبب الحياة إلى النفس وأظهرها لها في المظهر الذي يبسط الرجاء فيها ويبعث على الاغتباط بها، والجليل كل ما حرك فيها الوحشة وحجب عنها رونق الحياة؛ فالربيع والصباح والنور والصحة والشباب والحركة والمناظر الرائقة والخضرة والأبنية المزخرفة، كلها جميلة؛ لأنها تنعش الحواس وتذكرها بالحياة، والشتاء والليل والظلمة والمرض والهرم والسكون والقفار المخيفة والأطلال الدارسة والصروح القوية المتينة التي تنبئ بتعاقب السكان عليها والمعابد والهياكل والقوى الطبيعية الهائلة، كلها جليلة؛ لأنها تقبض الحواس وتميل بالنفس إلى التضاؤل والضعة أمام رهبة الفناء وعظمة الطبيعة وضخامتها. الجميل مظهر القدرة والجليل مظهر القوة، والنفس تقابل القدرة بالإعجاب والقوة بالخشوع.
الاعتراف بالنقص
لا يعترف الإنسان بشيء مما يشعر بنقصه إلا إذا كان يريد أن يتوصل من ذلك إلى الاشتهار بنوع ما من الكمال؛ فروسو والقديس أوغسطين وهيني لم يذيعوا كل تلك الأسرار الخفية التي سردوها في اعترافاتهم - من غير أن يخشوا أن ينقلها سواهم على غير حقيقتها أو تكون هناك ضرورة ماسة لإذاعتها - إلا طمعا في الاتصاف بمزية الصراحة الفلسفية أو الدينية، وهي أكبر في نظرهم من جميع تلك المزايا التي جردوا أنفسهم عنها بمحض اختيارهم.
الأطفال رجال صغار
نفوس الأطفال أصدق معرض تدرس فيه أخلاق الرجال، فإن جميع ما يضحكنا من طباعهم كالأنانية والغرور الشديد والغيرة الحادة، وحبهم المفرط لاستجلاب المدح والإعجاب يظل كامنا في نفوس الرجال، تتغير أشكاله وموضوعاته من الألاعيب إلى العروض الحقيقية وهو باق لا يتغير، وإنما يضطرون إلى مداراته؛ لأنهم لا يجدون من يحتمله منهم كما كان يحتمله آباؤهم وأمهاتهم.
المساومة في التجارة
كثرة اللجاج والمساومة في بيوعنا تدل على أن تجارنا لا يحسبون حسابهم ولا يعنون بتقدير أرباحهم كما يوافق رءوس أموالهم، بل يدعونها عرضة لتقلبات المصادفات، إما إلى المكسب أو إلى الخسارة، وربما كان هذا الإهمال هو السر في اضطراب السوق المصرية وتذبذب الأسعار بين الهبوط والصعود.
حماية العرض
Página desconocida
لا يمتدح الرجل بأكبر من نسبة القوة إليه كيفما كان مذهبه في تفسيرها، ولا يعير بأكثر من اتهامه بالضعف كيفما كان مذهبه في تفسيره، والرجل يشتد حنقه للاعتداء على عرض؛ لأنه دليل على استضعافه ووهن جانبه، فقد كان الرجل يحمي النساء من قديم الزمن؛ لأنه أقوى منهن، وكان المنتصر في عهد القبائل لا يعتز بقوته ويؤيد ظفره وتمام غلبته بأقهر من سبي نساء القبيلة المغلوبة، وقد كان النساء يعجبن بالرجل بقدر حظه من الصفات اللازمة لحمايتهن كالنخوة والبسالة والفروسية والبطش والقوة، فكان ميل المرأة إلى غير رجلها أو إغواء امرأة في حوزة رجل اتهاما له في ذات رجوليته؛ ولذلك تشتد الغيرة على العرض في الأقوام الذين تنحصر صفات الرجولية بينهم في هذه المزايا الجسدانية، ولذلك أيضا كانت الأم أكثر إغضاء عن زلة فتاتها من أبيها، وبعض قبائل البجاة تغض عن المعتدي على عرضها متى خرج من غير باب الخص؛ لأنهم يعتبرون ذلك إقرارا منه بالعجز عن مواجهتهم بالعدوان.
ثمرات اليراع
ألا لا تعدن اليراعة آلة
تسوق لك الرزق الذي بت راجيا
يراع الفتى عود تعرى لحاؤه
ولا يثمر العود الذي عاد عاريا
منظر على غير مرسح
كان صاحب هذه اليوميات في فندق (كتراكت) بأسوان حينما شاهد المنظر المحكي في هذه القطعة: نزلت بذلك الفندق بين السائحات في الشتاء الماضي فتاة كانت موضع إعجاب كل من رآها، وامتازت بشعرها الضافي الطويل على غير المألوف في نساء الغرب، وكأنها أرادت أن تداعب عشاق جمالها الكثيرين، فبرزت يوما في شرفة غرفتها بإزار النوم وهي تمشط شعرها وقد جلل ظهرها وجانبا من صدرها، ونادت بالغلام فأعطته مظلة تظاهرت كأنها تريد أن توصلها إلى أمها، وأشارت له إلى سيدة في ردهة الفندق، فجعل الغلام يغدو ويروح ويعرض المظلة على سيدة بعد أخرى وهو ناظر إلى جهتها وهي تشير إليه، فاستلفتت هذه الحركة إليها الجالسين، فما كادت تتحول إليها أنظارهم حتى انفتلت إلى داخل الغرفة وأومأت إليهم برأسها من وراء الستار كما يفعل الممثلون، وتركتهم يضحكون ويصفقون كأنهم يستعيدون هذا المنظر الشائق:
أشرقت من جوانب القصر كالزه
رة لاحت من جانب الأفق سرا
Página desconocida
في إزار يضم جسما من البل
لور أصفى ومن جنى الورد أطرى
وتمشت فألقت الريح منها
كشعاع الأصيل في الصيف شعرا
ثم نادت بناعم يشبه القي
ثار جرا ويشبه العود نبرا
زودت أمها بمسجاة خز
ما تقي كالهواء للشمس حرا
أرسلتها لها ولو علقتها
فوق أهداب شعرها كان أحرى
Página desconocida
ووقتها شمسا ولو نشرته
في ذرى القصر أصبح الظهر فجرا
أم تراها لو خاطبت أختها الشم
س أكانت تعصي لها الشمس أمرا
تربية المرأة
لا ينبغي أن يقتصر الغرض من تربية البنت على تعليمها كيف تكون زوجة، إلا إذا كنا نعلم الفتى في المدارس ليكون زوجا، والواجب أن نعنى أولا بتعلمها ما تنشأ به امرأة قادرة على النهوض بنصف أعباء الهيئة الاجتماعية، فإن العشرة الزوجية ليست حرفة يتلقى الطالب أسرارها في دور التعليم، ولكنها عمل كسائر أعمال الحياة يحسنه الإنسان أو لا يحسنه بمقدار ما له من الحذق والاختبار.
مذهب نيتشه
نيتشه عدو الضعف يريد أن يجعل العالم قويا لا بتطهيره من الضعف ولا بأن يهتم بترقية علم الطب، ولكن بما هو أيسر عليه من جميع ذلك، باستئصال الضعفاء منه. يصيح أشياعه: انبذوا الضعيف ولا تأخذكم به رحمة؛ لأن الرحمة تعاكس ناموس بقاء الأصلح في مهمته وتبقي على من لا يستحق البقاء.
ولكن من هو القوي؟ ومن هو الأصلح للبقاء؟
هذا ما لا يمكن أن تعرفه من نيتشه ولا من أشياعه.
Página desconocida
إن القوى البدنية لم تعد ذات شأن في تمييز الصالح من غير الصالح؛ فالضعيف والقوي يدرآن عن نفسيهما بسلاح واحد. وأضعف الضعفاء الذي لا يقوى على رفع أخف حمل عن الأرض في وسعه أن يقتل ستة من جبابرة المصارعين بتحريك أنملته. ومع ذلك ففي أي وقت نبدأ بحصر الضعفاء والأقوياء؟ ومن أدرانا أن هذا السقيم الفاني الذي نقلته اليوم لا يصبح صحيحا معافى غدا خصوصا إذا نظرنا إلى ما يرجى من تقدم وسائل العلاج عاما بعد عام، وأن هذا الغليظ الشديد الذي نبقي عليه لا يصبح مثله سقيما في يوم من الأيام؟
ثم من هو الأصلح وكيف نعرفه وبأي معيار نقيس صلاحه؟ وإلى من نكل فرز الصالح من سواه؟ وفي أي عمل نجربه؟ أفي عمل واحد أم نتركه حتى نردده على كافة الأعمال؟ وهل نعتبر صلاحيته بالنسبة إلى فترة محدودة أو بلد معين أم يكون ذلك بالنسبة إلى جميع الأزمان والبلدان؟
ومن أدرى هؤلاء الجراحين الذين لا يحسنون غير البتر علاجا، لعل الرحمة لا تكون من مقتضيات الرقي الإنساني ولوازم الاجتماع البشري إذا كان أصلها غير مشاهد في الحيوان؟
إن نيتشه وأشياعه هم الذي يعاكسون بهذا التداخل ناموس بقاء الأصلح، فإنهم بدلا من أن يتركوه مكبا على عمله ينفي الضار ويبقي النافع يعترضونه في وظيفته ويتحكمون فيما من شأنه وحده الفصل فيه.
تغيير المألوف
أصعب ما على النفوس تغيير مألوف، فلو كان هناك نازلة تلم بالإنسان من دون أن تغير شيئا من مألوفاته لما أحس لها بألم، ولذلك تخف وطأة الحوادث ويهون وقعها على من تتوالى عليهم المصائب ويمارسون تقلبات الأيام.
ولو أن الرجل ينظر إلى غير الدهر وإلى العوارض التي يستهدف لها كل إنسان، ولا يبعد أن تباغته في كل آن ومكان لتلطف عنه لذعتها التي يتلوى من قوارص آلامها الذين تداهمهم على غرة واطمئنان. وكذلك آلام الشيوخ، حزن ساكن لا يخالطه ذلك الوجع الحاد الذي يمتزج بآلام الشباب.
الموت
الموت أعم المصائب وقوعا، ولا يزال أشدها إيلاما وأقلها قبولا للعزاء، على أن ذلك لا يفيد؛ لأنه غير مألوف، ولكنه يدل على أن الإنسان لا يجزع لمصاب غيره كما يجزع لمصاب نفسه.
تواضع الملوك
Página desconocida
الرعايا تحتسب للملوك تواضعا ما ليس بتواضع في الواقع؛ فلو علم الملك الذي يتنزل إلى مخاطبة السوقة أن في ذلك ما يغض من قدره، بل لو علم أنه لا يرفع مكانته عندهم لما فعله.
الأثرة
الرجل الإيثاري في الحقيقة يتحرى مصلحته أكثر من الرجل الأناني، فإن الأول يحسب حساب مصالحه في الحاضر والمستقبل، والثاني يقصر نظره على المصلحة الحاضرة.
على أن الأثرة الممقوتة ليست هي التي نفسرها بأن يحب الإنسان الخير لنفسه، ولكنها الأثرة التي أساسها جهل حقوق الغير أو تجاهلها، وهي أثرة عتاة المستبدين والأطفال ومن على شاكلتهم من الجهل بعواطف الناس أو عدم الاضطرار للاعتراف بها، وهي أيضا أثرة من يطلق له العنان لحب نفسه وإرضاء مطامعه، وشر هؤلاء ضررا على الاجتماع في وقتنا الحاضر فئة الرأسماليين الذين تتركهم الحكومات يجمعون الأموال ويتمتعون ويتلذذون ويبذخون بما يسرقونه من أتعاب العمال وأرزاقهم؛ وهذا هو الخلق الذي لا يحسن أن يكون في شخص يعيش بين الملايين من أمثاله ويجب أن تطارده الهيئات الاجتماعية بكل وسيلة؛ لأنه آفة الاجتماع.
الحاجات والتقدم
حاجات السواد الأعظم منا لا تزال حيوانية صرفة. أكبر علامات المرض عندنا الحمية عن الطعام، فلان لا يأكل ولا يشرب؛ أي أنه بلغ أشد الداء أو أشد الغم، يبكي الطفل فلا يخطر لأمه أن أمرا يبكيه غير الجوع، يحرم أكثرنا أكل الفاكهة وشم الزهور وشهود الحفلات وغشيان الملاعب والمتنزهات؛ لأنها - كما يقولون - لا تسمن ولا تغني من جوع، يكد فلاحنا طول يومه، بل قل طول عمره ليجد ما يمسك رمقه، ثم لا تسمعه يتذمر أو يشكو كما يفعل الفلاحون في الأقطار الأجنبية، لا لأنه يزهد كسقراط أو يتقشف كديوجنس، ولكن لأنه يجهل ما يطلبه بعد حشو معدته ودفء جلده، وإذا سمعته يشكو فقل أن تسمعه يتظلم؛ لأنه لا يحدث نفسه بأن هناك أحدا يظلمه حقا من حقوقه. حاجات ما أخسها لا يمكن أن تقنع العجماوات بما هو أخس منها، فإذا صح أن رقي الأمة إنما يحسب بقدر تعدد مطالب الفرد، فما أبعدنا عن الرقي الحقيقي! وما أبعد الرقي الحقيقي عنا!
الرياء
ما رأيت مرائيا إلا وجدته مغتابا نماما. والجراءة على الناس في غيبتهم كالتزلف إليهم في حضرتهم، كلاهما علامة الجبن والصغار.
الكلام والأوزان
يظهر أن قوالب الجمل وأوزان الكلمات أثبت انتقاشا في الذهن من حروفها؛ فربما نسي الإنسان معنى الكلمة أو حروفها ثم ذكرها بوزنها، وقد يسبقه لسانه فيخلط بين الحروف مع حفظ الأوزان، فإذا كان يريد أن يقول مثلا: وطفقا يخصفان، نطق بها: وخصفا يطفقان، كما نسمعه أحيانا من بعض الحفاظ، ولعل سرعة استظهار الأشعار والكلام المقفى سببه مثل هذا.
Página desconocida
العالم في نظر أكمه
حاولت أن أقف على صورة العالم في مخيلة غلام أكمه، فقال لي إنه يراه كأنه هيولى مضطربة في ظلمة قاتمة لا أول له ولا آخر، قلت: لا تأس يا بني، إن أنفذ الناس بصرا أو بصيرة لا يرى منه أكثر من ذلك.
الموسيقى
التلازم متين بين الأصوات والانفعالات الباطنية، وهو أمتن بين الانفعالات والحركات البدنية، فإن الحيوانات والوحوش والهمجيين والأطفال والنساء أحيانا تترجم عن شعوراتها بالصياح على كيفيات مختلفة مقرونا في الغالب ببعض الحركات البدنية، ثم إن لكل من حالاتنا النفسانية لهجة خاصة، وكل لهجة هيئة تناسبها؛ فلهجة المسرور والظافر والشاكي والحزين والمتألم والغضبان تتباين تباينا يشعر باختلاف مصادرها، وإنك لتسمع الخطيب الذي لا تفهم لغته فتعلم من تغير لهجته وارتفاع صوته أو انخفاضه إن كان راضيا أو ساخطا، حاثا أو محذرا، مبشرا أو منذرا.
فإذا أوقع الموسيقار صوتا تنبه الإحساس الذي يناسبه على الأثر في نفوسنا - كأنهما فيها متلازمان لا ينفكان - وفي الأصوات التي يشتد لها طرب السامع يتنبه مع ذلك الإحساس حركة بدنية مطاوعة للنغم الذي يسمعه، فيهز رأسه أو يحرك عضوا من أعضائه، وهذا أول درجات الرقص ثم يرقص، وقد لا يملك نفسه مع الرقص من الترنم بالصوت الذي يسمعه أو الغناء بما على وزنه من الكلام المفهوم.
فنحن في قبضة انفعالاتنا، تتلاعب بنا كما تلعب الأم بوليدها بين ذراعيها، نرقص ونثب ونصيح بالرغم منا كما يفعل الهمج والعجمات، وترانا في ألطف مظاهر أنسنا نحن إلى همجيات أولئك الجدود.
نهاية الرقي
الرقي العصري كفيل بأن يصل بالإنسان إلى درجة تكون فيها إرادته قانونه، وترفع عنه كثيرا من سلطة الحكومات عليه.
الميراث
ليس للإنسان حق أن يحتجز من الثروة العامة إلا بقدر ما يقوم لها من العمل، فالرجل يسقط حقه في التصرف بثروته متى انقطعت أعماله لموته، وعلى الهيئة الاجتماعية الإنفاق من ريعه على من يهمه أمرهم من بعده.
Página desconocida
يترك الرجل لابنه ضيعة، والضيعة قبل عشرة أعوام لا تكلف صاحبها إلا سعيا طفيفا، ولكنها لا تنال بعد عشرة أعوام إلا بتكبد المشاق والصعاب، فيتمتع ذلك الابن الكسول بجزء من الثروة العامة من غير أن يقدم لها عملا في نظيره، وإلى جانبه رجل مجد نشيط يقطع عمره كدا وكدحا دون الوصول إلى اقتناء ضيعة مثل ضيعته؛ وهو خلل متشعب في تقسيم ثروة الأمة لا يستقيم حال الجمعية البشرية إلا بتلافيه.
فراسة المرأة
المرأة ألطف زكانة وأفطن إلى تشابه الملامح من الرجل، فقد رأيت بعض النساء يرين الطفل الصغير قبل أن تتشخص ملامحه فيحكمن بأنه من آل فلان وأن فيه شبه العائلة الفلانية، وقد لا يبدو لغير المتأمل أن بينهما أدنى شبه، والظاهر أن كثرة اشتغالهن بتجميل الملامح قد أكسبهن هذه الخبرة فيها.
التاريخ القديم
كتب التاريخ القديم أقرب إلى الإحصائيات أو سجلات المواليد والوفيات منها إلى التاريخ، فإذا قرأت فصلا عن رجل عظيم ذكروا لك اسم أبيه وأمه ويوم ميلاده ويوم وفاته والبلد الذي نشأ به والبقعة التي قبر فيها؛ فعرفت اسما ولقبا ويوما وبلدا وقبرا ولكنك لم تعرف رجلا.
الطلاق
إن أكثرنا يظن أن المرأة من متممات زينة البيت، فكما أن في البيت متاعا وأثاثا عن كل صنف، كذلك يحسن أن تكون فيه واحدة أو أكثر من صنف النساء، وإن بعضهم ليغير زوجته مرارا ولا يغير ملاءة سريره.
تعدد الزوجات
لا أعلم لماذا يسوغ للرجل أن يستحوذ على أكثر من أربع نساء، ولا يسوغ للمرأة أن تطمع في أكثر من ربع رجل إن لم يكن أقل؟
أقذار المجد
Página desconocida
من حسن حظ العظماء أنهم وحدهم الذين يطلعون على الدنايا التي يتلطخ بها طلاب المجد الكاذب.
التغرير
التغرير بالعقول عمل يسير، ولكن نزع الغرور منها من أصعب الأمور، ولأن تمني الإنسان بالباطل أحب إليه من أن تيئسه بالحق.
أحاديث الشبان
من شبان العصر من إذا جلست إليهم لتنصت إلى محادثاتهم حرت في تحديد موضوعها، يبدأ أحدهم بالكلام ولا يتمه ويسأل السؤال ولا ينتظر جوابه، يغني ثم يقتضب الغناء ثم يضحك، ينتقل من كلام تافه إلى كلام أتفه بلا مناسبة أو صلة بين الكلامين، بحيث يسأل الإنسان نفسه أما كان يمكن أن يستغني هذا عن لسانه؟ يشير بيديه ويهز رأسه وقدميه، ويدور هنا وهناك بغير غرض ولا موجب، كأنما عليه أن ينطق بقدر معين من الكلمات ويأتي بعدد معين من الحركات، فهو لا يقصد من كل إشاراته وعباراته إلا أن يصيب العدد المطلوب.
الحرب
من أقوال فتزجرالد على ما أذكر: «إن الحرب تجر إلى الفقر، والفقر يحث على العمل، والعمل يورث الغنى، والغنى يسبب الشقاق، والشقاق يفضي إلى الحرب ...»
ولا أظن أن هذه السلسلة ستحفظ نسقها في هذا الزمان، بل أرى على العكس من ذلك أن السلم سوف يكون في المستقبل مسيجا بسور من الذهب والفضة، فإن انتشار المعاملات واشتباك المرافق الاقتصادية بين الأمم سيكون أول باعث على اتقاء مواقف القتال.
فقد ضعفت الخلافات التي تفضي إلى الحرب بمقدار ما عظمت خسائرها، وكلما تقدم الزمن زادت هذه فداحة وتلك ضعفا.
فالحرب لا ترتكز على شيء من الطبائع البشرية، بل هي تنافرها كل المنافرة؛ فالرجل لا يخوض غمراتها إلا فرارا من عار الناس أو عقاب الحكومة أو سخط الله أو دفعا لخطر على حريته، فهو يقدم على موت مشكوك فيه فرارا من موت محقق أو ما هو بمنزلة الموت المحقق.
Página desconocida
فالشجاعة العسكرية عادة اصطناعية، والناس جبناء بطبيعتهم؛ أي أنهم سواء في الخوف من الموت حتى الجنود، على أن هؤلاء يتظاهرون أنهم لا يسوون فقط بين الموت والحياة، بل إنهم يعشقون الموت ويبغضون الحياة، فيقول أحدهم متهكما كلما انحنى جندي في ساحة الوغى من طريق رصاصة توشك أن تثقب صدره: أهي صديق تنحني له؟ كأنه ليس في نفوسهم من كراهة الموت ما يتجشمون من أجل اتقائه إحناء الرأس!
قال تولستوي، وهو قائد قديم: «إن شجاعة الجنود من جنس شجاعة البغال التي تقف إلى جانبهم مشدودة إلى مدافعها، تحاول الإفلات وما تستطيع انفلاتا.» فمهما أوتي المرء من الشجاعة فلا تصدق أنه يقتحم الحرب وله مندوحة عن اقتحامها، كذلك لا تصدق أن إنسانا يواجه الحرب بطبيعة ساكنة؛ لأن الطبيعة البشرية تأبى التعرض للخطر وتنفر من دواعي الهلاك؛ فالهمجيون يهيجون طبائعهم قبل الحرب إلى حد الجنون بدق الطبول وقرع الدفوف والولولة والصياح، والمتمدنون يتشاغلون عنها ويتحاشون ذكر القتلى والإصابات والخسائر وكل ما يخلق فيهم الشعور بحقيقة موقفهم، فيصرفون خواطرهم عن هذه الهواجس بسفساف القول وتوافه الأحاديث؛ فلا تسمع بينهم لحوادث الحرب ذكرا أو خبرا كأنما ليس فيها ما يستحق المبالاة، بينما تكون الحوادث سمر أخلاط الناس على بعد مئات الفراسخ والأميال. هذا على أن تعرض مئات الألوف من الناس في صعيد واحد لخطر واحد من شأنه أن يهون الأمر على كل منهم ويشدد عزيمته على اقتحامه.
وإنه ليس أسخف من أن تسمع ضابطا يشكو ويتأفف من حصن تنهمر عليه المقذوفات من كل جانب، وتنفجر حوله وعلى جدرانه القنابل بين كل دقيقة ودقيقة، وتسأله فيقول لك: إن الطريق إلى الحصن موحلة. فهو يعاني صعوبة في السير عليها.
قال بعض قواد الألمان حديثا: إن الحرب تنمي في النفس كثيرا من الصفات الممدوحة، وأهمها تضحية النفس في سبيل الواجب، على أن هذه هي الفضيلة الوحيدة التي لا تنميها الحرب وتنمي ما يناقضها تماما.
فكل جندي وكل ضابط نابليون صغير - كما يقول تولستوي - يزهق بقدر ما يمكنه من النفوس وييتم بقدر ما يمكنه من الأطفال، ويدمر بقدر ما يمكنه من الدور ليلصق بذراعه شريطا أو يحلي صدره بنيشان يخطف به أبصار البسطاء.
ومع هذا فمهما كان نصيب رأي ذلك القائد من الصواب، فالإنسانية يجب ألا تعول في اكتساب هذه الفضائل على مثل هذا البرنامج الصعب؛ فإنه برنامج يكلفها من النفوس والأموال ما هي في غنى عن احتماله.
فالأمم الآن لا تلجأ إلى الحرب إلا كآخر وسيلة لحل الخلاف، وأين هو الخلاف الذي يربو الضرر فيه على ضرر الحرب المترتبة عليه؟ وهل يبلغ تنازع البقاء بين أمتين في عصرنا هذا أن تسحق إحداهما الأخرى لتتخلص من مزاحمتها، ويخلو الجو لمتاجرها؟
إن أقوى بوادر الخلاف قائمة الآن بين إنجلترا وألمانيا، وهذا الخلاف لا حقيقة له؛ فهو مبني على توهم كل من الأمتين أنها قد تتعرض لمهاجمة الأخرى في المستقبل، فإذا سألت: هل مصلحة ألمانيا تقضي عليها بغزو إنجلترا أو إحدى مستعمراتها؟ وهل تقضي إنجلترا بغزو ألمانيا أو إحدى مستعمراتها؟ وهل الفوز في المنافسة التجارية يتوقف في المستقبل على هذه الوسائل العنيفة؟ كانت إجابتك على كل شواهد الأحوال سلبا.
والأمم لا تترك اليوم لكل أمة تمام الحرية في الموازنة بين مقتضيات الحرب وموانعها بالنسبة لها وحدها؛ فإن أكثر الأمم تشترك في تحمل خسائرها وإن لم تشترك في حشد الجنود وجمع الذخائر، فقد بلغ من استحكام الروابط الاقتصادية بينها أن أقل إشاعة بوقوع الحرب في أقصى المعمورة توقع الارتباك في السوق المالية، فتنخفض الأسعار وتهبط الأسهم وتتزعزع الشركات عدة أيام.
والذي يشاهد من انتشار نفوذ أحزاب الاشتراكيين والعمال، وهم الفريق الذي لا مصلحة له في الحرب، ذلك كله مما يقوي الأمل في أن يوم إبطال الحرب أقرب مما ينتظر بكثير.
Página desconocida
الاستخدام
موظفنا الصغير يبيع حريته ووقته وعمله بخمسة جنيهات في الشهر، يناط تقدير كفاءته بإرادة غيره، وربما أريد منه فوق الكفاءة في العمل كفاءة أخرى في الملق والدهان، ينقل من بلد إلى بلد بغير اختياره، ويجبر في كل مرة على ربط صلاته بقوم وقطعها من آخرين، ثم تحظر عليه الحكومة اقتناء الأرض والعقار في الجهة التي يشتغل بها - كأنها تركت له ما يقتني به - وهو معرض في أية ساعة للنقل إلى أية جهة فأين يباح له الاقتناء؟ وتحرم عليه الاشتغال بأمور البلد الذي هو فيه كأنما هي اقتلعته من العالم الخارجي من جذوره، وهو مع ذلك يحسب أنه الرابح في هذه الصفقة، وأنه لا يمكن أن يجد أهنأ من هذه العيشة، يصل إليها بعد أن يتخطى عشرات المزاحمين عليها.
مباراة في الخيال، بين حسن الإنسان وحسن البستان
الموضوع
أخجلت يا ورد خدود الحسان
فاحمر منها ناضر كالدهان
ورعت يا فل عيون المها
فأطرقت تطلب منك الأمان
وزمت الغيد شفاها لها
لما انجلى ثغرك يا أقحوان
Página desconocida
ومالت القامات غضبانة
لما انثنى في روضة غصن بان
وأين شدو الطير في مزهر
من مزهر تشدو عليه القيان
الأسباب
فالورد ما احمرت له وجنة
من ريبة حاشا لورد الجنان
والأقحوان الغض لم يبتسم
خبثا ولم يدنس بمين اللسان
وقامة الأغصان لم يثنها
Página desconocida