وأنت يا شقيق الروح يا من أوحشت الدار ومن فيها، وآنست القبور وساكنيها يا مؤبن الأمراء وراثي العلماء، وباكي الأدباء والكبراء والفقراء، يا أيها الراقد بلا حراك، ولا يجدر بتأبينك سواك، يبكيك القلم يا أميره، والحق يا أسيره، يبكيك الأهل والأحباء، فقد كنت ودودا حبيبا، ويبكيك الشعراء والكتاب والخطباء، فقد كنت شاعرا وكاتبا وخطيبا، تبكيك المجالس يا خير جليس، وتبكيك محاضر الأنس يا خير أنيس، تبكيك صحف بعبراتها، وترثيك صحف بعباراتها، ولا تسل عمن استرهن الأمور بأوقاتها، فترجمة حالك ستفضح ما كان مستورا، تبكيك بكاء «أندروماك» أمك زهرة الآداب يا غصنا نضيرا ، وتسقيك الذكرى في كل عشية.
وأما الكئيب الكاسف البال رفيق صباك وأعمالك وأخوك في جهادك، فأجثو بالذلة والاكتئاب عند ذلك التراب، وأستمطر دمع العين لهفا، وأستوقد نار الصدر أسفا، وأبكيك وأرثيك ما بقي لي من الحياة بقية.
وأقسم بوحشتك آنسها الله، وبغربتك رحمها الله، إني مقيم على ولائك محب لأحبائك، عدو لأعدائك، لا عزاء لقلبي الأسوان إلا التأسي بأن تجمعني وإياك ظلمة الأبدية.
فحسبي شجوا أن أرى الدار بلقعا
خلاء وأشلاء الحبيب ترابا (18) مصطفي باشا كامل
من خطبة ألقاها في الإسكندرية سنة 1897
سادتي وأبناء وطني الأعزاء
إني بفؤاد ملؤه الفرح والسرور أقف الليلة أمامكم متكلما عن شئون الوطن المحبوب ومصالحه، وإني لأقابل انعطافكم نحو خدمة البلاد بمزيد الحمد والشكران، وأستميحكم العفو إذا قصرت في أداء هذا الواجب، فإني إنما أسر بهذا الانعطاف وبهذه المظاهرات، لا لأنها موجهة لشخصي الضعيف بل لأنها أكبر دليل علني على حياة الشعب المصري، وأقوى حجة تكذب دعوى القائلين بأن مصر وطن لا وجود للوطنية فيه، وأن أبناء وادي النيل يقدمون بأنفسهم إلى ألد أعدائهم وطنهم وأقدس ميراث لآبائهم وأجدادهم.
أجل أيها السادة، إنكم باجتماعكم اليوم هذا الاجتماع الوطني ترفعون كثيرا من مقام الوطنية المصرية، وتخففون من آلام مصر العزيزة التي قاست وتقاسي أشد العذاب على مشهد منكم يا أعز بنيها ويا نخبة أنجابها. فكل اجتماع وطني تذكر فيه مصر ويطالب بحقوقها، ويعلن أبناؤها إخلاصهم لها هو في الحقيقة مرهم لجراحها، ودواء لدائها، فاذكروها ما استطعتم، فإن في ذكراها ذكرى آلامها، وذكرى الآلام تجر حتما إلى ذكر عوامل الشفاء. اذكروها كما يذكر الولد الحنون أمه الشفيقة وهي على سرير المرض والعناء. اذكروها بآلامها وإن كان غيركم يذكر بلاده بمجدها ورفعة شأنها. اذكروها فإنكم ما دمتم مقدرين لمصائبها، عارفين بحقيقة آلامها دام الأمل وطيدا في سلامتها ودام الرجاء. اذكروها فمن المستحيل أن يرى العاقل النار في داره، والداء في شخص أمه ويهمل النار ويهمل الداء، ومن المستحيل كذلك أن يكون الوطن في خطر ونحن نيام، وأن يعمل الأجنبي لامتلاك بلادنا وسلب حياتنا، بل لاستعبادنا واسترقاقنا ونحن جامدون لا عمل ولا حراك.
ألقوا أيها السادة بأنظاركم قليلا إلى الأمم الحرة تجدوا كل فرد فيها يدافع عن وطنه، ويذود عن حوض بلاده أكثر من دفاعه عن أبيه وأمه، بل هو يرضاهما ضحية للوطن، ويرضى نفسه قبلهما قربانا يقدمها لإعلاء شأن بلاده، ويعد الموت لأجل الوطن حياة دونها الحياة البشرية، ووجودا دونه كل وجود، فلم لا يكون المصري على هذا الطراز ووطنه أجمل الأوطان، وأحقها بمثل هذه المحبة الشريفة الطاهرة؟!
Página desconocida