أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وآجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت، فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب.
وله أيضا:
أيها الناس، كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون. نبوئهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم، ونسينا كل واعظة وأمنا كل جائحة. طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالا اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته، وطابت سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة. (2) أبو بكر الصديق
أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (3) علي بن أبي طالب
أغار سفيان بن عدي الأزدي على الأنبار وعليها ابن حسان فقتله، وأزال تلك الخيل عن مسالحها، فخرج علي حتى جلس على باب السدة، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال:
أما بعد، فإن الجهاد من أبواب الجنة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلة، وشمله البلاء، وألزمه الصغار، وسيم الخسف، ومنع النصف، ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا سرا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم، وثقل عليكم قولي، واتخذتموه وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقتل حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، وقتل منكم رجالا صالحين، وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع أحجالها وقلبها ورعثها، ثم انصرفوا وافرين ما كلم رجل منها كلما، فلو أن امرءا مسلما مات من بعدها أسفا ما كان عندي ملوما، بل كان عندي به جديرا، فيا عجبا من جد هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم! فقبحا لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى وفيئا ينهب! يغار عليكم ولا تغيرون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في الحر قلتم: حمارة القيظ، أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر. وإذا أمرتكم بالسير في البرد قلتم: أمهلنا حتى ينسلخ عنا القر. كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال. وددت أن الله قد أخرجني من بين ظهرانيكم وقبضني إلى رحمته من بينكم. والله لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة، والله جرت ندما وورثت صدري غيظا، وجرعتموني الموت أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان. حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب شجاع، ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل منهم أحد أشد لها مراسا وأطول فيها تجربة مني؟! لقد مارستها وما بلغت العشرين، وقد نيفت فيها على الستين، ولكنه لا رأي لمن لا يطاع. (4) معاوية بن أبي سفيان
لما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له: من بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشر ذلك بموتك، فقال: ويحك، ولم؟ قال: لا أدري. قال: فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم. وأذن للناس فدخلوا، فحمد الله وأثنى ثم قال:
أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئا، ويزداد فيه الظالم عتوا. لا ننتفع بما علمناه، ولا نسأل عما جهلناه، ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا، فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه من الفساد إلا مهانة نفسه وكلال حده ونضيض وفره، ومنهم المصلت بسيفه المجلب بخيله ورجله والمعلن بشره قد أشرط نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده أو منبر يقرعه، ولبئس المتجران تراهما لنفسك ثمنا ولمالك عند الله عوضا، ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، فقد طامن من شخصه، وقارب خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة للمعصية، ومنهم من قد أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه وانقطاع سببه فقصرت به الحال عن أمله؛ فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس الزهد، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر فهم بين شريد نافر، وخائف منقمع، وسائق مكلوم، وداع مخلص، وموجع ثكلان قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة، فهم بحر أجاج، أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا، فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظة وقراضة الجلمين، واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من كان بعدكم، فارفضوها ذميمة فإنها رفضت من كان أشغف بها منكم. (5) عتبة بن أبي سفيان
وهو يومئذ أمير مصر، وقد بلغه عن أهلها أمورا أن صعد المنبر، وقال:
يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين. إنما قلمت أظافري عنكم ليلين مسي إياكم وسألتكم صلاحكم لكم؛ إذ كان فسادكم راجعا إليكم، فأما إذا أبيتم إلا الطعن على الأمراء، والعتب على السلفاء والخلفاء، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم، فإن حسمت مستثيري دائكم وإلا فالسيف من ورائكم، فكم من عظة لنا قد صمت عنها آذانكم، وزجرة قد مجتها قلوبكم، ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية، ولا مؤيسا لكم من المراجعة إلى الحسن إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى. (6) زياد بن أبي سفيان
Página desconocida