يقال رتج الإنسان يرتج رتجا إذا استغلق عليه الكلام فلم يقدر عليه، وهي آفة تصيب الخطيب والممثل على السواء، والسبب استعداد خاص مرجعه في الغالب علم الخطيب بصعوبة الموقف وخوفه من الفشل وتهيبه الجمهور المصغي إليه. ولا علاقة للرتج بمنزلة الخطيب من البراعة والشهرة، بل كلما عظم قدره وذاع ذكره وكان له نباهة في قومه كان أعلم من سواه بمصاعب الكلام ومبلغ ما ينتظره الناس منه، وقد كان والدك روسو لا يفارقه الخوف عند التكلم على الرغم من العادة والخبرة، فكانت يداه لا تفارقان المنبر حتى آخر كلمة يلفظها لئلا يشعر بارتجافها.
أعراض الرتج
يصيب العقل ضرب من الشلل تجمد به القريحة وتظلم الذاكرة؛ فتتناول الإنسان رعدة يرافقها شبه انحلال في العضل وتراخ في المفاصل ووهن في العزيمة، ويتصبب العرق من جسمه، ويأخذه دوار في الرأس وطنين في الأذن، وقد يبلغ هذا الطنين عند بعض الممثلين أنه لا يسمع ما يقول هو نفسه، وتسرع دقات القلب كأنه يحاول الخروج من الصدر، وتعلو الوجه صفرة شديدة وتضطرب وظائف المعدة والأمعاء اضطرابا مزعجا مؤلما.
وقد يأتي الرتج في منتصف الطريق أي بعد أن يكون الخطيب ابتدأ ابتداء حسنا، وأخذ ينطلق في خطابه بسهولة وتلاعب وانشراح؛ كالصاعد جبال الألب يقطع مسافات شاسعة ويجتاز عقبات كأداء دون جهد كبير، وإذا به لحادث تافه لا يذكر يحس دوارا قويا فيضطر إلى الوقوف أو القعود، وأحيانا لا يجد الراحة والطمأنينة إلا بالاضطجاع على الثرى. هكذا تكون بداية الخطاب حسنة وإصغاء الجمهور تاما ، ثم تعرض حركة أو إشارة من أحد السامعين سواء أكانت استحسانا أم استهجانا فتفسد الموقف على الخطيب فيجد نفسه قد تغير كل التغير وأسدل على بصره وبصيرته ستار من الظلام تضيع فيه كل حيلة.
معالجته
تكون بتربية الإرادة وأن يذكر الخطيب أن الرتج ليس عارا، وإذا عد من لم يعرف الرتج عظيما فأعظم منه من عرفه وتغلب عليه. متى يضع الخطيب نصب عينيه هذه الحقيقة، ويذكر أن السواد الأعظم ممن جاء ليسمعه إنما جاء لاعتقاده أنه يسمع شيئا لا يعرفه؛ أي إنه يعتبر الخطيب أوسع منه علما ولو في هذا الموضوع وحده، وأنه يحترم مقامه متى يذكر ذلك تهن الأمور عليه فيجتهد أن يكون عند ظنهم فيه، وهكذا يستطيع محاربة هذه الأعمال المنعكسة بالارتداد عليها بقوة الإرادة.
ومن الأمثلة الجميلة على الجهد الذي وسع الخطيب إنفاقه لمكافحة هذه الآفة والانتصار عليها ما ذكره غامبتا عن نفسه قبل اعتلائه المنبر للمرة الأولى، قال في إحدى رسائله إلى أبيه: «يوم الخميس سأقف خطيبا لأول مرة وإني لمنتظر هذه الساعة بفارغ الصبر وقلبي يخفق لها، ولكن لا عن خوف أو اضطراب، ولن يكون لي في الحياة يوم أسعد من هذا اليوم.» إن للخطوات الأولى في طريق المهنة بهجة خفية فيخال لك أن الأرض تهتز تحت قدميك، ويلم برأسك دوار يشبه السعادة ثم يأتي العقل فيثبت من حولك كل شيء لتمشي نحو شواطئ المستقبل المجهول.
لقد رأيت وسمعت في شهور ثلاثة كل ما اطلع فن المحاماة من كبير وصغير، فالحق أقول لك بلا تيه أو خيلاء إن آمالي قد تضاعفت وثقتي تزايدت، كنت منذ ستة أشهر أرجف فرقا لدى فكرة النضال مع هؤلاء، أما الآن فقد غلبت الجسارة علي وما فاز باللذة غير الجسور.
وبما أنه لا علاقة بين الرتج ومنزلة الخطيب - كما قلنا - فلا خطر منه، بل ربما أفاد في بعض الأحوال بما يبعث في المرء من العزيمة لمضاعفة الجهد والبلوغ إلى الغاية.
2
Página desconocida