إن العبرة كل العبرة هي أن يحمل الخطيب عقول سامعيه في تيار العبارات الجميلة الموسيقية، فيهز تلك العقول هز الطفل في السرير، ويملك عليها جهد التفكير ويخدر فيها حاسة النقد، ويجعلها في شبه غيبوبة من سكر الفصاحة، ثم تأتي كلمة هي الكلمة الفاصلة المنتظرة مدعومة أحيانا بنبرة في الصوت أو ضربة على المنبر فتوقظ تلك النفوس وقد عرفته بعد إنكارها ونازعت إليه بعد نفارها.
واللغة العربية قابلة للإنشاء الخطابي أكثر من سواها لوفرة غناها بالألفاظ والتشابيه والاستعارات وما فيها من جزالة لفظ وفخامة تركيب ورنة تسجيع، وما تقدر عليه من إيجاز وإطناب، فإذا ساعدها الأسلوب والخيال كانت على لسان البليغ خمرا تدب في النفوس وسحرا يسطو على الرءوس.
وربما نزل الإنشاء الخطابي أحيانا عن نثر الكاتب في دقة المعنى ومتانة المبنى إلا أن في فصاحة اللهجة وجمال اللفظ وجهارة الصوت وإجادة الأداء ما يستر هذا العيب، فيخرج السامع مأخوذا بما سمع ولو لم يحفظ منه شيئا قانعا بما أحس به من التأثير، راضيا عما حصل عليه من اللذة.
نختم هذا الفصل بذكر ما ورد على لسان بشر بن المعتم من غالي النصائح في تعليم البلاغة قال:
خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك؛ فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا وأشرف حسبا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من ناقص الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالفكر والمطاولة والمجاهدة، وبالتكليف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه.
وإياك والتوعر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراد معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، ولا تهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما وكن في ثلاثة منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا وقريبا معروفا، إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من مقال.
وكذلك اللفظ العامي والخاصي فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة قلمك ولطف مداخلك واقتدارك على نفسك أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء فأنت البليغ التام.
فإن كانت المنزلة الأولى لا تؤاتيك ولا تعتريك ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها في أماكنها المقوية لها والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها وكانت قلقة في مكانها نافرة في موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا محكما لسانك بصيرا بما عليك أو ما لك؛ عابك من أنت أقل عيبا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك، فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصيغة ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة وتعصى عليك بعد إجالة الفكر، فلا تعجل ولا تضجر ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمؤاتاة إن كان هناك طبيعة أو جريت من الصناعة على عرف.
فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض، ومن غير طول إهمال فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإنك لم تعشقه ولم تنازع إليه إلا وبينكما سبب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة كما تجود به مع المحبة والشهوة، فهكذا هذا.
هوامش
Página desconocida