الخِصالُ المُكَفِّرَةُ للذنوب
يتضمن تحقيق مخطوط صغير للخطيب الشربيني فيه سؤال وجواب حول تكفير الحج للذنوب
دراسة وتعليق وتحقيق
الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس
1 / 1
الطبعة الأولى القدس / فلسطين
١٤٢٣هـ
٢٠٠٢م
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 3
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران الآية ١٠٢.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) سورة النساء الآية ١.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب الآيتان ٧٠ - ٧١.
وبعد
فإنه أثناء قيامي بفهرسة مخطوطات مؤسسة إحياء التراث الإسلامي في بيت المقدس، التابعة لوزارة الأوقاف الفلسطينية، عثرت على مخطوطة صغيرة، ضمن مجموعة مخطوطات، وهذه المخطوطة
1 / 5
الصغيرة، عبارة عن سؤال وُجِهَ إلى العلامة الخطيب الشربيني حول تكفير الحج للذنوب، فأجاب عنه إجابة موجزة.
فرغبت في نشر هذه المخطوطة، ليُنتفعَ بها، وقد دعاني هذا إلى توضيح بعض القضايا المتعلقة بموضوع السؤال والجواب، فتحدثت بإيجاز في التمهيد، عن تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر، ثم بينت المراد بحقوق الله وحقوق العباد، ووضحت أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد.
وفي المبحث الأول ذكرت طائفة عطرة من الأحاديث النبوية الواردة في الخصال المكفرة للذنوب.
وفي المبحث الثاني ذكرت كلام أهل العلم على الأحاديث السابقة الذكر، وماهية الذنوب التي تكفرها الأعمال الصالحة، وهل يدخل في ذلك الكبائر أم لا؟
وفي المبحث الثالث تكلمت على تكفير الحج للذنوب، وذكرت كلام أهل العلم في ذلك، وخصصت الحج بالكلام لأنه موضوع المخطوطة.
وفي المبحث الرابع ذكرت كلام أهل العلم على قوله تعالى:
(إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) سورة هود الآية ١١٤، حيث إن كثيرًا من أهل العلم، قد استدلوا بهذه الآية الكريمة على غفران الذنوب صغيرها وكبيرها.
1 / 6
وفي المبحث الخامس: تحدثت بإيجاز عن العلامة الخطيب الشربيني، فذكرت اسمه ونسبه وثناء العلماء عليه ومؤلفاته.
وفي المبحث السادس: قدَّمت نص المخطوطة محققًا ومعلقًا عليه.
ثم أتبعت ذلك بفهرس المصادر وفهرس المحتويات.
وفي الختام، فإني أرجو أن ينتفع العبد الفقير المذنب، بهذا الكتاب وأن يحافظ على الخصال المكفرة للذنوب، وكذا إخواني المسلمين، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يغفر لي ولكم ولجميع المسلمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه د. حسام الدين بن موسى عفانه
القدس - أبوديس
ضحى يوم الجمعة السابع من صفر الخير ١٤٢٣هـ
وفق التاسع عشر من نيسان ٢٠٠٢ م
1 / 7
تمهيد
ويشمل ما يلي:
١ - تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر.
٢ - توضيح المراد بحقوق الله وحقوق العباد.
٣ - أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد.
أولًا: تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر:
اعلم أن جماهير العلماء قد قالوا إن المعاصي والذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة أذكر بعضها:
قول الله ﷿: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) سورة النساء الآية ٣١.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) سورة الشورى الآية ٣٧.
وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) سورة النجم الآية ٣٢.
1 / 8
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: ذكر رسول الله ﷺ الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور، أو قال شهادة الزور) رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله ﷺ فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة ﵃ أن رسول الله ﷺ قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ:
(إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه) رواه البخاري.
وعن نعيم المجمر أن صهيبًا مولى العتواريين حدثه أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد الخدري ﵄ يخبران عن رسول الله ﷺ: (أنه جلس على المنبر ثم قال والذي نفسي بيده ثلاث مرات، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزنًا ليمين رسول الله، ثم قال: ما من
1 / 9
عبد يؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصطفق ثم تلى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ) رواه النسائي وابن حبان وابن خزيمة.
وعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، ورواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وغير ذلك من النصوص.
ولكن أهل العلم اختلفوا في حقيقة الكبيرة، وهذه بعض أقوالهم:
فمنهم من يرى أن الكبيرة هي ما لحق صاحبها بخصوصها وعيد شديد بنص من القرآن الكريم أو السنة النبوية، قال ابن عباس ﵄: [الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب] تفسير القرطبي ٥/ ١٥٩.
ومن العلماء من يرى أن الكبيرة هي كل معصية أوجبت الحد.
ومنهم من يرى أن الكبيرة هي كل محرم لعينه، منهيٌ عنه لمعنى في نفسه، فإن فُعل على وجهٍ يجمع وجهين أو وجوهًا من التحريم كان فاحشة، فالزنا كبيرة، وأن يزني الرجل بزوجة جاره فاحشة.
1 / 10
وقال الواحدي المفسر: [الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله ﷿ أخفى ذلك عن العباد، ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظائره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك] الزواجر عن اقتراف الكبائر ١/ ١٦.
وقد لخَّص الشيخ ابن حجر المكي تعريفات العلماء للكبيرة فذكر ما يلي:
أحدها: أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيدٌ شديدٌ بنص كتاب أو سنة.
ثانيها: أنها كل معصية أوجبت الحد.
ثالثها: أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حدٌ وترك فريضة تجب فورًا.
رابعها: كل جريمة تعلم بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة.
خامسها: أنها ما أوجبت الحد، أو توجه إليه الوعيد.
سادسها: أنها كل محرم لعينه منهيٌ عنه لمعنى في نفسه.
سابعها: أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه، أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء: أكل لحم الميتة والخنزير ومال اليتيم ونحوه والفرار من الزحف، ورُدَّ بمنع الحصر في الأربعة.
1 / 11
ثامنها: أنه لا حدَّ لها يحصرها يعرفه العباد. وغير ذلك من الأقوال الزواجر عن اقتراف الكبائر ١/ ١٤ - ١٦.
ثم ذكر ابن حجر المكي طائفةً من أقوال العلماء في الكبيرة:
قول ابن عباس: [الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب أو لعنة أو عذاب].
قول الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك: [كل ذنب أوعد فاعله بالنار].
قول الغزالي: [كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف ووجدان ندم تهاونًا واستجراءً عليها فهي كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس ولا ينفك عن ندم يمتزج بها وينغص التلذذ بها فليس بكبيرة].
وقال الغزالي في موضع آخر: [ولا مطمع في معرفة الكبائر مع الحصر، إذ لا يعرف ذلك إلا بالسمع ولم يرد].
قول العز بن عبد السلام: [الأولى ضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعار صغر الكبائر المنصوص عليها قال: وإذ أردت الفرق بين الصغيرة والكبيرة، فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل الكبائر فهي صغيرة وإلا فكبيرة]
1 / 12
قول ابن صلاح في فتاويه: [الكبيرة كل ذنب عظم عظمًا يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبيرة، ويوصف بكونه عظيمًا على الإطلاق، ولها أمارات منها: إيجاب الحد.
ومنها: الإيعاد عليه بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة.
ومنها: وصف فاعلها بالفسق.
ومنها: اللعن].
وقال البارزي: [والتحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد، أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها].
واعلم أن كل ما سبق من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط، وإلا فهي ليست بحدود جامعة وكيف يمكن ضبط ما لا طمع في ضبطه] الزواجر ١/ ١٧ - ١٩.
والذي عليه أكثر أهل العلم أن كبائر الذنوب كثيرة، وليست محصورة في عدد معين، وإن ذكر في بعض الأحاديث عددها، فليس المراد الحصر، فمن ذلك ما ورد في الحديث، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله ﷺ فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو
1 / 13
قول الزور، وكان رسول الله متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: ذكر رسول الله ﷺ الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال قول الزور، أو قال شهادة الزور) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [وأما قوله ﷺ: (الكبائر سبع) فالمراد به من الكبائر سبع، فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم، فهي مخصوصة بلا شك، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع وفي الأخرى ثلاث، وفي الرواية الأخرى أربع، لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض] شرح النووي على صحيح مسلم ١/ ٢٦٤.
1 / 14
ويؤيد عدم انحصار الكبائر في سبع، أو ثلاث، أو أربع، ما ورد عن ابن عباس ﵁، أنه لما سئل عن الكبائر أسبعٌ هي؟ فقال: هي إلى سبعين أقرب.
وقال سعيد بن جبير: [قال رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار]. انظر تفسير القرطبي ٥/ ١٥٩.
وهذا هو الراجح إن شاء الله، وهو أن الكبائر ليست محصورة في عدد معين، وقد ذكر الإمام ابن حجر المكي يرحمه الله عددًا كبيرًا من الذنوب التي تعد من الكبائر وساق الأدلة على ذلك فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابه القيم الزواجر عن اقتراف الكبائر.
1 / 15
ثانيًا: توضيح المراد بحقوق الله وحقوق العباد:
قسم جمهور الفقهاء والأصوليين الحق باعتبار صاحب الحق إلى أربعة أقسام وهي:
أولًا: حق الله تعالى ويسمى الحق العام:
وهو ما قصد به التقرب إلى الله تعالى وتعظيمه وإقامة شعائر دينه، أو قصد به تحقيق النفع العام دون اختصاص بأحد، ونسب هذا الحق لله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه كما قاله ابن نجيم الحنفي في فتح الغفار ٣/ ٥٩.
وحق الله تعالى يشمل الإيمان به ﷻ، والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وإقامة الحدود والكفارات وغير ذلك. انظر الفروق ١/ ١٤٠ - ١٤١، أصول الفقه لأبي زهرة ص ٣٢٣ - ٣٢٦، نظرية الحكم القضائي ص ٢٣٩ - ٢٤٢، الفقه الإسلامي وأدلته ٤/ ١٣ - ١٥، الموسوعة الفقهية ١٨/ ١٤ - ١٩.
ثانيًا: حق العبد المحض:
وهو ما كان متعلقًا بمصالح الإنسان الخالصة، قال القرافي: [وحق العبد مصالحه] الفروق ١/ ١٤٠.
وحق العبد المحض يشمل الحقوق المالية، قال الشيخ محمد أبو زهرة: [حقوق العباد الخالصة وذلك كالديون والأملاك وحق الوراثة وغير
1 / 16
ذلك مما يتعلق بالأموال نقلًا وبقاءً، فهذه كلها حقوق العباد خالصة والاعتداء على حقوق العباد ظلم، ولا يقبل الله تعالى توبة عبد قد أكل حقًا من حقوق العباد إلا إذا أداه أو أسقطه صاحبه وعفا] أصول الفقه ص٣٢٤.
وحق العبد يقبل الإسقاط، فإذا أسقط إنسان حقًا له على غيره فله ذلك، قال القرافي: [ونعني بحق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط] الفروق ١/ ١٤١.
ثالثًا: ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق الله غالب:
ومثاله حد القذف فهو من جهة أن فيه مسًا بأعراض الناس علنًا فهو حق لله تعالى، ومن جهة أن المقذوف بالزنى قد اتهم في عرضه فهو حق له ولكن حق الله غالب فيه.
وكذلك حد السرقة بعد أن يبلغ الإمام، وكذلك عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها، فحق الله فيها صيانة الأنساب عن الاختلاط وحماية المجتمع من الفوضى، وأما حق العبد فيها فهو المحافظة على نسب أولاد الزوج وحق الله غالب. نظرية الحكم القضائي ص ٢٤٢، أصول أبو زهرة ص ٣٢٤ - ٣٢٥ الفقه الإسلامي وأدلته ٤/ ١٥ الموسوعة الفقهية ١٨/ ١٨.
رابعًا: ما اجتمع فيه حق الله وحق العبد وحق العبد الغالب:
1 / 17
ومثاله القصاص وعقوبات الدماء بشكل عام كالديات.
[فالقصاص لله فيه حق لأنه اعتداء على المجتمع واعتداء على مخلوق الله وعبده، الذي حرم دمه إلا بحق، ولله في نفس العبد حق الاستعباد حيث قال ﷿: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات الآية ٥٦. وللعبد في القصاص حق، لأن القتل العمد اعتداء على شخصه لأن للعبد المقتول في نفسه حق الحياة وحق الاستمتاع بها فحرمه القاتل من حقه وهو اعتداء على أولياء المقتول لأنه حرمهم من رعاية مورثهم واستمتاعهم بحياته فكان القتل العمد اعتداء على حق الله وحق العبد ولذلك كان في شرعية القصاص إبقاء للحقين وإخلاء للعالم من الفساد، تصديقًا لقول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة البقرة الآية ١٧٩.
وغلب حق العبد لأن ولي المقتول يملك رفع دعوى القصاص أو عدم رفعها وبعد المطالبة بالقصاص والحكم على الجاني القاتل يملك التنازل عنه والصلح على مال أو الصلح بغير عوض كما يملك تنفيذ حكم القصاص على القاتل إن أراد ذلك وكان يتقن التنفيذ ولا يجوز ذلك إلا بإذن الحاكم لئلا يفتات عليه فلو فعل وقع القصاص موقعه واستحق التعزير] الموسوعة الفقهية ١٨/ ١٨ - ١٩.
1 / 18
ثالثًا: أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد:
اعلم أن المعصية إذا كانت متعلقة بحقوق الله المالية فلا بد للتائب منها أن يؤدي حقوق الله تعالى، ولا يكفي مجرد الإقلاع عن المعصية.
قال الإمام النووي: [... ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله تعالى ولا للعباد، كقبلة الأجنبية ومباشرتها فيما دون الفرج فلا شيء عليه سوى ذلك، وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه] روضة الطالبين ١١/ ٢٤٥ - ٢٤٦.
وذكر الخطيب الشربيني أن حق الله تعالى كالزكاة والكفارات لابد من أدائها. مغني المحتاج ٤/ ٤٤٠.
وقال الإمام النووي أيضًا: [وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي، فإن كان حدًا لله تعالى بأن زنى أو شرب الخمر، فإن لم يظهر عليه فله أن يظهره ويقر به ليقام عليه الحد، ويجوز أن يستر على نفسه وهو الأفضل، فإن ظهر فقد فات الستر فيأتي الإمام ليقيم عليه الحد] روضة الطالبين ١١/ ٢٤٦ - ٢٤٧.
وكلام النووي يدل على أن الحدود المختصة بالله تعالى كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر لا تسقط بمجرد التوبة، ولا بد من إقامة الحد وهذا مذهب جمهور الفقهاء. انظر الموسوعة الفقهية ١٨/ ١٨ - ١٩.
1 / 19
وكذلك فإنه من المقرر عند العلماء أن من شروط التوبة من المعصية المتعلقة بالناس رَدُّ الحقوق لأصحابها
قال الإمام النووي: [وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغصب والجنايات في أموال الناس، وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه بأن يؤدي الزكاة ويرد أموال الناس إن بقيت، ويغرم بدلها إن لم تبق، أو يستحل المستحق فيبرئه، ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به، وأن يوصله إليه إن كان غائبًا إن كان غصبه منه هناك، فإن مات سلَّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره، دفعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتهُ وديانته، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده ... وإن كان معسرًا نوى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل القدرة فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة.
قلت - أي النووي - ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة، وإن مات معسرًا عاجزًا إذا كان عاصيًا بالتزامها، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات، أو أتلف شيئًا خطأً وعجز عن غرامته حتى مات، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة، إذ لا معصية منه والمرجو أن الله تعالى يعوض صاحب الحق]. روضة الطالبين ١١/ ٢٤٥ - ٢٤٦.
1 / 20
وقال النووي أيضًا: [وإن كان حقًا للعباد كالقصاص وحد القذف فيأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يعلمه فيقول أنا الذي قتلت أباك ولزمني القصاص، فإن شئت فاقتص وإن شئت فاعف
وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب فرأيت في فتاوى الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار وإن بلغته ... فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه فإن تعذر لموته أو تعسر لغيبته البعيدة استغفر الله تعالى ولا اعتبار بتحليل الورثة هكذا ذكره الحناطي]. روضة الطالبين١١/ ٢٤٧.
وذكر الشيخ أحمد النفراوي المالكي أن الإسنوي والسنوسي قالا:
[التوبة من الغصب والسرقة والحرابة ونحو ذلك يشترط في صحتها رد المغصوب]. الفواكه الدواني ١/ ٧٦.
وقال النفراوي أيضًا: [وإن تعلقت - المعصية - بحقوق العباد لزم مع الندم رضا العبد أو بذله إليه إن كان الذنب ظلمًا كما في الغصب وقتل العمد] الفواكه الدواني ١/ ٧٦.
وقال النفراوي أيضًا: [ومن واجبات التوبة رد المظالم إلى أهلها بأن يدفعها إليهم إن كانت أموالًا ولو أتى ذلك على جميع ما عنده أو يردها إلى الوارث فإن لم يجد له وارثًا تصدق به على المظلوم.
1 / 21