ربما ماتت، لكنه لم يكن موتا حقيقا وإنما ذلك الموت الذي يسبق الموت الحقيقي ويسمى في الطب بالموت الإكلينيكي، حين تتوقف الأنفاس تماما لكن القلب يظل يقاوم العدم بدقات خافتة ربما لا تكون مسموعة لكنها موجودة وباقية لفترة من الزمن، ربما تكون فترة طويلة جدا، فليس سهلا أن يموت الإنسان ولا يمكن للجسد الحي أن يموت بسرعة، فما بالك لو كان هو جسد المرأة، وليست أي امرأة أيضا وإنما هي «عين الحياة» بجسدها العجيب الذي صنع من الطين نهدين بيضاوين مكورين ناعمين، ومن ماء البرك عينين صافيتين واسعتين يتوسط كلا منهما «نني» أسود بارز كفص من الزمرد أو الماس.
لم يكن سهلا أن تختنق وتموت، لكن الجدار كان لا يزال فوقها، لو كان جدارا أملس ربما كان الثقل محتملا، لكنه كان جدارا خشنا متعرجا مليئا بتضاريس مفلطحة كالبلطة تتخللها بروزات صغيرة مدببة تحتك بجسمها كرءوس المسامير، وكان من الممكن أن تحتمل كل هذا لولا هذا الانسحاق.
وأصابتها الغيبوبة لكنها لم تكن تلك الغيبوبة وإنما هو الإحساس الطاغي بالألم، بلغ من طغيانه أن أطاح بكل الأحاسيس الأخرى وأطاح معها أيضا الإحساس بالألم نفسه، كالنار تأكل كل شيء ثم تأكل نفسها وتذوي وتنسحق وتصبح رمادا.
لكنها لم تكن نارا لتذوي وتصبح رمادا، كانت «عين الحياة» وكان الجدار قد انزاح من فوقها بقدرة قادر، وتركها ممدودة مبططة كفراشة ضغطت بين الكتب لتحنط، أو كقطعة من اللحم دقت بالساطور ودقت ودقت لتصبح كالورقة الرقيقة الشفافة.
وكانت شفتاها الرقيقتان تنزفان، وقد ارتسمت على كل شفة أسنان الكماشة، وأنفها عاد إلى مكانه لكنه لم يصبح في منتصف وجهها تماما وإنما اعوج ومال إلى ناحية، وجسدها كله تغطيه خدوش وكدمات صغيرة تنز ببطء يتوسطها ذلك الجرح العميق الغائر ينزف دما، دما حقيقا أحمر.
وارتكزت بيدها فوق الأرض لتنهض فلمحت إلى جوارها ورقة خضراء صغيرة كتب عليها عشرة قروش؛ سرعان ما التفت حولها أصابع «نون» بأظافرها الطويلة المدببة الحمراء، وكانت «نون» قد ظهرت بسرعة ووقفت أمامها تبتسم ابتسامتها الدائمة الندية، وكانت «عين الحياة» لا تزال راقدة تحاول أن تنهض.
وربما استطاعت أن تنهض، لكن حركتها أصبحت بطيئة وخصرها اللدن لم يعد هو خصرها، كان الجدار قد تلاشى تماما وكان من الممكن أن يتلاشى معه كل شيء لو أنه كان جدارا فحسب، لكنه كان رجلا له جسد وله مسام تغرز في جسدها وتترك على جلدها بصمات العرق.
وبقيت الرائحة في أنفها بعض الوقت لكنها لم تكن تعرف مصدرها، كانت تتلفت حولها ويخيل إليها أن الذي حدث لم يحدث، وتبدأ الأشياء كلها تختلط بعضها بالبعض فلا تكاد تعرف الحقيقة من غير الحقيقة، وحين تنظر إلى جسدها المهدود في المرآة يخيل إليها أنها ليست عين الحياة، وحين تنظر إلى أصابعها الصفراء بأظافرها الطويلة الحمراء يخيل إليها أنها ليست أصابعها، وحين تنظر إلى عينيها المكحلتين الممصوصتين يخيل إليها أنهما ليستا عينيها، وحين تضع يدها على شعرها المصبوغ المنكوش يخيل إليها أنه ليس شعرها، وحين تضع يدها فوق بطنها يخيل إليها أنه ليس بطنها.
لكنه كان بطنها، ربما ليس هو بطنها الصغير المستدير الذي كان يرتفع ارتفاعا خفيفا فوق عانتها ولكنه بطنها الذي أصبح يكبر ويصعد نحو صدرها.
ولم يعد في إمكانها أن تثني خصرها، كان بطنها ينتفخ ويقترب من صدرها حتى التصق به تماما، ولم يعد لها خصر، أصبحت بغير خصر على الإطلاق، وكلما حركت ساقيها ارتج بطنها الذي تمدد من كل ناحية وكاد يتدلى فوق فخذيها، وهبطت عينا «نون» الخضراوان كجرادتين فوق خصرها المتلاشي فتلاشت ابتسامتها الندية لأول مرة في حياتها ثم ما لبثت أن تلاشت هي بأكملها، لم تعرف كيف تلاشت لكنها تلاشت، لم تكن تظن أنها يمكن أن تتلاشى يوما، كانت جزءا منها كرأسها أو صدرها أو بطنها أو خصرها، لكن خصرها كان قد تلاشى من قبل.
Página desconocida