وبدأت «عين» ترى الأشياء بوضوح أكثر، كأنما انقشع الضباب الدائم الذي كان يغلف الجو أو أن السحابة الملتصقة بعينيها سقطت وذابت إلى الأبد، وكانت تريد أول ما تريد أن ترى وجهها، وكانت قد رأته من قبل كثيرا حين ينعكس على صفحة القناة، لكنها لم تكن تعرف ملامحه، وسارت بساقيها الرفيعتين حتى وصلت القناة فجلست على الحافة ونظرت، وطالعتها عينان واسعتان تشبهان عيني أمها، وثبتت عينيها في عينيها لتراهما أكثر وتألفهما لكنها لم تكن تألفهما، وكلما نظرت إليهما أكثر زادت غربتهما فكأنهما عينا فتاة أخرى غيرها، وبدأت تخاف القناة، لم يكن خوفا بمعنى الخوف الذي يجعل المرء يبتعد عن مصدره، لكنه كان إحساسا شديدا بالغربة عن نفسها يقابله إحساس أشد بالرغبة في إزالة هذه الغربة، وتثبت وجهها على صفحة القناة وتنظر في عينيها عن قرب حتى يكاد أنفها يلتصق بالماء، وكلما تسرب إليها الإحساس بالغربة همست لنفسها بقوة: هذه أنا! وأحيانا تقتنع وتهدأ، وأحيانا يظل ذلك الإحساس الغريب كلوح من الزجاج البارد يفصل بينها وبين نفسها.
ولم يكن ذلك يشغلها كثيرا، كانت هناك أشياء أخرى من حولها تنتظرها لتكتشفها، وحينما كانت تكتشف شيئا جديدا، يبدو لها كأنما هي رأته من قبل، ويصبح الجديد في ذلك الوقت لا جديد والاكتشاف لا اكتشاف، فكأنما هي عاشت حياتها من قبل وها هي تعيشها مرة ثانية أو لعلها الثالثة أو الرابعة وتكاد تعرف بالضبط ما الذي سيأتي في الغد وبعد الغد، على أن ذلك لم يكن يحدث لها إلا في لحظات خاطفة تبلغ من سرعتها كأنما هي لا تحدث حقيقة وإنما هي نوع من الخيال أو الوهم.
ولم يكن هناك شيء معين تفعله، كانت تجلس وحدها في العراء وعيناها الواسعتان السوداوان تدوران من حولها، لم يكن هناك شيء معين تبحث عنه، لكنها كانت كأنما تبحث، وأحيانا تنبش التراب بأصابعها الرفيعة وتقلب الأحجار الصغيرة بين يديها، وقد تعثر على صرصار أو خنفسة فتقلبها على ظهرها وبطنها، وحينما يقع بصرها على عينيها البارزتين الذليلتين تسري قشعريرة في جسدها لكنها تظل قابعة في مكانها ممسكة بفريستها، وقد تنزع عنها أرجلها الرفيعة المشرشرة وتفصل صدرها عن فقرات بطنها.
وكانت تلعب مع الأطفال أحيانا وتسابقهم الجري والقفز، وحينما تقفز ويتعرى فخذاها ترى نظرات ساخرة في عيون الأولاد وقد يتجمعون بعضهم حول البعض، ويتهامسون ويضحكون بأصوات عالية نابية، وقد يتعمد أحدهم أو بعضهم أن يجري وراء البنات يضربون أثدائهن وأردافهن، وتتفرق البنات مذعورات وسرعان ما تبلعهن الخيم، أما «عين» فلم تكن تجري ولم تكن تذعر، كانت تملأ يديها بالحجارة وتقذف بها الأولاد، وكلما فرغت يداها عادت فتملؤهما، وتكاد تستمر على هذا النحو إلى الأبد لولا تلك اليد الكبيرة التي تشدها من كتفها وتدخلها الخيمة. •••
وفي الخيمة لم يكن هناك شيء يذكر، الجدار الأسود المقوس بغير سقف، والأغطية البالية مكورة في ركن، وفي الركن الآخر كانت هناك أخواتها الخمس متكورات بعضهن حول البعض ككتلة سوداء ضخمة لها خمسة رءوس وعشر عيون، وكانت عين قد بدأت تحفظ أسماء أخواتها؛ الكبرى «باء» وتليها «ثاء» ومن بعدها «فاء» ثم «سين» ثم «شين»، أما أمها فقد كانت لا تزال تخلط بين أسمائهن، فإذا ما أرادت أن تنادي «باء» قالت «ثاء»، وإذا أرادت «ثاء» نطقت «فاء»، وإذا نادت «سين» أرادت «شين»، أحيانا كانت تردد الأسماء الخمسة جميعا لتصل في النهاية إلى الاسم الذي تعنيه، لكنها لم تكن تخطئ في اسم «عين»؛ ربما لأن اسمها مميز بعض الشيء، أو ربما لأن هناك شيئا مميزا في وجهها أو جسمها، ربما هي الندبة تحت حاجبها الأيسر، ربما هي النظرة في عينيها الواسعتين السوداوين، ربما أي شيء، لكن أمها لم تكن تخلط بينها وبين أخواتها.
على أن «عين» لم تكن ترى في نفسها شيئا مميزا، كانت بنتا كأخواتها الخمس، لم تكن تعرف بعد حقيقة كونها بنتا، فهي حقيقة بنيت على السماع فحسب ويمكن لها أن تشك فيها، أشياء كثيرة سمعتها وظنت أنها حقيقة ثم اتضح لها من بعد العكس، ولم تكن تعرف كيف يمكن أن تثبت لنفسها أنها بنت، لكنها اختفت وراء الخيمة وشدت سروالها القذر الممزق ونظرت بين فخذيها العاريين، كانت أنفاسها تتلاحق وقلبها الصغير يدق، وحينما استقرت عيناها المرتجفتان على الشق الرفيع الصغير هبطت دقات قلبها وبطأت أنفاسها وزحف إلى جسدها إحساس بارد ثقيل.
وعادت حياتها الماضية تتتابع أمام عينيها تحت ضوء جديد، الكلمات التي سمعتها من أمها ولم تفهمها عادت ترن لتفهمها، والنظرات التي كانت تراها في عيني أبيها ولا تفسرها عادت تتراءى لها لتفسرها، والحركات التي كانت تلمحها هنا وهناك وفي كل مكان عادت تظهر أمامها بالمعنى الصحيح.
وخرجت من وراء الخيمة تجر جسدها الثقيل، وحملتها قدماها بغير وعي إلى حافة القناة، وحينما نظرت تحت قدميها رأت في الماء امرأة طويلة لها نهدان وردفان، كأنما ردفاها ونهداها نمت خلسة، كأنما أحست أنوثتها الرفض المحيط بها فأصبحت تنمو في الخفاء، وتتضخم بأكثر من المعتاد، تختزن بينها وبين نفسها خلايا إضافية حيطة لما قد يحدث وينال منها. •••
ولم تكن عين تدرك تماما ما الذي يدور حولها، كانت أخواتها البنات يختفين من الخيمة واحدة بعد الأخرى، وفي كل مرة تسمع الهمس الغريب من وراء الجدار وصوت أبيها الخشن يتحدث مع بعض الرجال، لم يكن حديثا بمعنى الحديث وإنما هي أسئلة مباشرة سريعة وردود قاطعة بالأرقام، ومن بعدها تبدأ المساومة البطيئة والهمهمات، وكانت عيناها تدوران على محتويات الخيمة وهي لا تدرك تماما ما الذي يمكن أن يباع، لكن الصوت كان ينقطع فجأة ويظهر أبوها على باب الخيمة مناديا على واحدة من البنات، وكانت الأخوات الخمس يجلسن في الركن المعتاد متجاورات متلاصقات، وحين يرن الاسم بينهن ينتفضن ويلتصقن بعضهن بالبعض كالفراخ المذعورة، لكن اليد الطويلة القوية كانت تمتد وتشد واحدة منهن من ذراعها أو ساقها كالفرخة يشدها البائع من بين أخواتها ليخرجها من القفص.
وحينما اختفت الأخت الخامسة أصبحت «عين» تنتظر دورها، لم تكن تعرف متى سيأتي لكنها كانت تعرف أنه لا بد آت عن قريب أو بعيد، وكانت تنتظر، تستيقظ كل يوم في الصباح الباكر وترتدي رداءها الوحيد وهو رداء إحدى أخواتها، قديم وبال وأسود يغطي ذراعيها وساقيها ويضيق عند صدرها وبطنها كالكفن، وتجلس في الركن تنتظر، وحينما تسمع صوت أبيها تنتفض، وحين يسكت الصوت تهب واقفة وقد خيل إليها أن أباها سيظهر، وأن اسمها سيرن في الجو، وأن اللحظة حانت وعليها أن تستعد، لكن الصوت لا يكون هو الصوت، وأبوها لا يظهر واسمها لا يرن، فتعود تجلس في الركن وتنتظر، وأصبحت أذناها مرهفتين لأي صوت وإن لم يكن صوت أبيها، وعيناها حساستين لأي ظل يقترب من باب الخيمة، وفي أيام الصيف الحارة كان العرق يتصبب من جسمها ويلتصق به الرداء ويضيق وينعدم الهواء من حولها فتكاد تختنق، وتمدد ساقيها وتغمض عينيها وتكاد تغفو، لكنها سرعان ما تنتصب. في الصيف لا تحدث أشياء هامة وخاصة وقت الظهر، وربما لم يحدث من قبل أن نودي اسم من أسماء أخواتها وقت الظهر، أو أن أباها نفسه ظهر مرة وقت الظهر، لكن إذا حان الحين فأي شيء محتمل الحدوث وربما في هذه اللحظة بالذات يظهر أبوها وينادي على اسمها.
Página desconocida