وكنت قد بدأت العمل في عيادة السلط، فبعثت إلى القاهرة رسالة أطلب البقاء فترة أطول، لكن الرد جاءني بالرفض وبطبيب آخر ليأخذ مكاني، وعرفت السبب من بعد؛ ذلك أنني امرأة، ولا يصح للمرأة الطبيبة أن تعمل في السلط إلا بعد أن ينقرض الأطباء الرجال من فوق الأرض.
وعدت إلى القاهرة ولم أعرف ماذا انتهت إليه هذه المرأة.
وحاولت أن أكتب شيئا عن رحلتي إلى الأردن، لكني كلما كنت أمسك القلم كانت هذه المرأة تلوح لي بعينيها الواسعتين الغائرتين تغطيهما طبقة متجمدة من الدمع وتحت حاجبها الأيسر ندبة. •••
كان جسدها الطويل النحيل ممدودا بحذاء النهر، كانت تستريح لحظة بعد مسير شاق طويل، أو تغفو لأول مرة في حياتها بعد يقظة دائمة مضنية، وأغمضت جفنيها كما يغمض الناس أجفانهم عند النوم، لكنها لم تكن نائمة ولم تكن أيضا يقظة، ربما هي إغماءة لكنها ليست إغماءة عادية حيث يضيع الوعي تماما ويتلاشى الإحساس، وإنما تلك الإغماءة العجيبة النادرة حين يفقد الإنسان حواسه الخمس، ويظل في نفس الوقت قادرا على الإحساس، ليست تلك القدرة المألوفة، وإنما هي قدرة عجيبة تجعله حساسا مرهفا قادرا على أن يلتقط أي لمسة ويسمع أي همسة ويشم أي رائحة ويلمح أي حركة.
كيف كانت تستطيع ذلك؟ لم تكن تدري، لكنها ظلت راقدة بحذاء النهر، فإذا ما مرقت أمامها في الماء سمكة استطاعت أن تلمحها، وإذا ما سقطت إلى جوارها من الشجرة ورقة استطاعت أن تسمع صوت وقوعها، وإذا ما تسرب حولها في الجو رائحة، أي رائحة؛ دخان ينبعث من عقب سيجارة، عربة مقبلة من بعيد، أنفاس إنسان مختبئ بين الصخور، تحركت أذناها واتسعت فتحتا أنفها وانحسر جفناها عن عينيها الواسعتين السوداوين.
وحينما لا تجد شيئا يعود جفناها فينغلقان وتتوقف أذناها عن الحركة وتضيق فتحتا أنفها كما كانتا، وربما يظن من يراها بجسدها الممدود المرتخي أنها لا تفعل شيئا، لكنها كانت تفعل، لم تكن تفعله بإرادتها لكنه كان يحدث، كما كان يحدث تماما وفي الأوقات نفسها والأمكنة ذاتها، وبالترتيب نفسه والتتابع نفسه واحدا وراء الآخر، كأنه شريط فوق بكرة ويلف ويلف معه أيام حياتها متتابعة يوما وراء يوم بالنظام الذي حدث من قبل، فلا اليوم يسبق الأمس ولا الغد يأتي قبل اليوم.
ولم تكن حياتها تبدأ بيوم مولدها كعادة الناس، وإنما كانت تبدأ قبل ذلك بأيام كثيرة، حين كانت شيئا صغيرا داخل بطن أمها، كانت لا تزال جنينا ومع ذلك كانت تحس وترى وقد تشم أيضا، لم تكن ترى شيئا يذكر إلا ظلاما دامسا ليل نهار، وأحيانا ينفذ ضوء خفيف من أسفل لا تعرف مصدره تماما، كانت عيناها لا تزالان مغمضتين، وربما لم يكتمل بعد عصب الإبصار لكنها كانت تحس الضوء من فوق جفنيها كالظل.
ولم تكن أيضا تشم شيئا يذكر إلا تلك الرائحة التي قد تفوح في أوقات لا تعرفها، ولكنها تنفذ إلى أنفها وإن كان أنفها لم يكن قد تكون بعد، وإنما تلك الفتحة الصغيرة المسدودة التي ستصبح أنفها من بعد.
أما أنها كانت تحس فقد كان ذلك شيئا مؤكدا واضحا، ليس وضوحا عاديا وإنما هو إحساس دقيق بكل ما يدور حولها وإن كانت لا تزال كتلة صغيرة من اللحم، لم تكن كتلة ميتة أو قطعة شحم، بل كانت عددا من الخلايا الحساسة المرهفة الإحساس، ربما هي خلايا عصبية كلها أو بعضها، تنقسم بسرعة وتتكاثر لتبلغ المئات أو الآلاف أو الملايين أو لعلها ملايين الملايين.
وكانت تحس أنها لا تزال في بطن أمها وأنها لن تبقى هكذا إلى الأبد، وكان الخرطوم الطويل الرفيع يخرج من بطن أمها ليلتف حول رقبتها، ربما لم تكن لها رقبة بعد لكنه كان يلتف حولها ويكاد يخنقها، ولم تكن تختنق، كلما ضيق الخرطوم حولها الخناق انكمشت وتضاءلت وتداخلت خلاياها بعضها في البعض، واستطاعت أن تفلت بجلدها، لم يكن لها جلد بعد، بل لم يكن لها صدر أو رأس أو بطن، كانت لا تزال شيئا صغيرا متكورا ملتفا بعضه حول البعض له كأي شيء آخر مقدمة ومؤخرة، وكانت تعرف أن هذه المقدمة ستصبح رأسها وأن المؤخرة ستصبح شيئا آخر، لم تكن تعرف بعد ما هو الاسم الذي يمكن أن تطلقه على مؤخرتها، لكنها كانت تحس أنه ليس اسما بسيطا ككلمة رأس وإنما اسم معقد، وربما معقد جدا بحيث إنه قد يكون من الصعب عليها أن تنطقه.
Página desconocida