كان للدرج قفل وللحقيبة مفتاح أخفيه في الخندق العميق بين ثديي لكني كنت أخاف، أخاف أن تراقبني عين وترى مكان المفتاح، وكانت أمامي عين بالذات تراقبني، وفي مرة رأتني وأنا أخرج المفتاح من فتحة ثوبي فاحتضنت حقيبتي وخرجت أبحث عن مخبأ جديد.
في مكان بعيد خال فتحت الحقيقة فإذا به يخرج وحده ماشيا على قدميه، كان الهواء باردا فخلعت سترتي ودثرته، وأمسكت أصابعه الصغيرة بأصابعي، كان يشد أصابعه ليخلصها من أصابعي ويجري لكني كنت أجري خلفه وأخاف أن يجتاز الشارع وحده، كان صغيرا نحيلا وسط الشارع المزدحم بالناس وبالعربات كالنقطة البيضاء في بحر أسود متلاطم الأمواج.
كان كثير الحركة والقفز وأنا من خلفه أحاول أن ألحق به وأحوطه بذراعي، لكنه كان يتملص مني ويفلت من قبضتي، يريد أن يهرب مني لكني لم أدعه يهرب، كنت ألازمه كظله، كجزء من جسمه، كيده أو ذراعه أو رأسه، وفي مرة خبط رأسه في الجدار ليتخلص من ثقل جسدي، لكنني كنت أصلب من الجدار، وحينما كانت أصابعي تصل إلى أصابعه تنقبض عضلات يدي على يده إصبعا إصبعا، فإذا ما حرر إصبعا أو كاد التف حوله الخيط من جديد كنسيج العنكبوت، وفي مرة غرز أسنانه في يدي وعضني لكن عضلاتي لم ترتخ، كنت أخاف أن أطلق سراحه فيجري بعيدا عني ويضيع مني في الشارع المزدحم وقد تدهمه عربة أو يبتلعه الخضم.
وفي الليل لا أنام إلا وأصابعي تلتف حوله، وأنتظره حتى ينام قبلي، أخاف أن أنام قبله فترتخي أصابعي وينزلق من بينها ويهرب.
وكنت أطعمه بالنهار فينمو بالليل، أفتح عيني كل صباح فأجد ذراعيه وساقيه أكثر طولا وأثقل وزنا، وأصبحت يده أكبر من يدي، وأصابعه أطول من أصابعي، وقامته زادت عن قامتي، كنت أريده صغيرا خفيفا لأحمله في صدري وأخبئه، وأريد أصابعه صغيرة ورفيعة لألف حولها أصابعي، لكن أصابعي لم تعد تلتف حول يده واستطاع أن يفلت مني.
وجريت وراءه، كنت أجري بأقصى سرعتي لكن خطوته كان أسرع من خطوتي، وساقاه أكثر طولا وأكثر مرونة من ساقي، وأخذت المسافة بيني وبينه تزيد، فأزيد سرعتي وألهث، كان الطريق مزدحما بالناس والعربات، وكنت أراه من ظهره وأعرفه من بين الناس بمشيته السريعة وشكل أذنيه الصغيرتين الحمراوين والحسنة السوداء فوق رقبته من الخلف، كان يجري دون أن يتنبه إلى العربات المتسابقة، وكلما سمعت فرملة شديدة مفاجئة صرخت: ابني!
لكن الطريق أصبح أقل وضوحا كأنما الشمس بدأت تغرب أو أن ضبابا خفيفا بدأ يغشى عيني، ولم أعد أرى ظهره ولا أذنيه، لكن الحسنة السوداء ظلت أمام عيني تهتز، لكنها سرعان ما ابتعدت واختفت.
واختلطت ظهور الناس المتزاحمة أمامي فلم أعد أميزه من بينهم، وتعثرت قدماي في حجر صغير فسقطت، ظننت أنني سأنهض ككل مرة وأستأنف الجري لكن حركة ساقي أصبحت بطيئة، وفقرات عظام ظهري أصبح لاحتكاك بعضها بالبعض صوت خشن، وشيء ينطحن بين الفقرتين كقطعة من اللحم.
ولم أتوقف، كنت أخاف أن أتوقف فلا ألحق به ويضيع مني إلى الأبد، ثنيت ظهري لأحول بين احتكاك الفقرات، ولأسقط ثقل جسدي فوق فخذي وساقي.
وبدأت عظامي وساقي تنوء بالحمل الثقيل، فاشتريت عصا غليظة أتكئ عليها بدلا من أن أتكئ على قدمي، لم أعد أرى ظهور الناس لكن ضوءا خافتا كان يسقط فوق جفني، ويجعلني أميز الطريق، أنقل قدما وراء العصا ببطء شديد، وارتطم طرف العصا بشيء صلب فسقطت مني العصا ولم أستطع الوقوف على قدم واحدة فجلست.
Página desconocida