لا أظن أنك لهثت مرة، فأنت طبيبة لك عمل محترم ولك عيادة تدر عليك ربحا وفيرا، ولا يمكن لك أن تتخيلي منظر لسان يلهث خاصة إذا كان لسان طفل، في تلك اللحظة يصبح لسانك جافا حادا يلسع الحلق كلسان من اللهب، واللعاب يصبح كالجمرة المشتعلة تسقط في الجوف فتحرق المعدة وتخرق جدار البطن. كنت أقف في عرض الشارع عارية وقد تدلى لساني فوق ذقني وعنقي، وبرزت عيناي في وجهي كأني سأختنق، كنت أريد أن أصرخ ليسمع الناس صراخي، لكن النوافذ كلها كانت مظلمة مغلقة، ومن خلفها أناس راقدون أكاد أسمع شخيرهم، كنت أريد أن أدق بكل قوتي على أبوابهم، أو أجمع بين ذراعي الحجارة وأقذف بها نوافذهم، كنت أريد أن أوقظهم وأقول لهم شيئا.
لكني رأيت اللسان الصغير يكف عن اللهث، ويتدلى فوق الذقن والعنق الرفيع، ورأيت العرق الطويل نافرا من العنق ينبض ، وامتد إصبعي يجس العرق، كان إصبعي باردا والعرق ساخنا، أرى حركته البطيئة بعيني، لكن إصبعي لم يحس النبض، كنت أريد أن أحس النبض الذي كنت أحسه من قبل، وضغطت على العرق، لكن العرق هرب من تحت إصبعي فضغطت أكثر.
كالحلم القديم رأيته في منامي منذ سنين ونسيته، لكني ما زلت أذكر ماذا سيحدث، وملمس العرق القديم لا يزال عالقا بطرفه إصبعي حين كنت أضغط وأضغط وهو يهرب ويهرب، وانسحب الدم من رأسي وصدري وساقي وتجمع في إصبعي، وتجمعت معه كل قوتي وقدرتي على الضغط، ولم يعد العرق محسوسا لكني ظللت أضغط، كان رأسي باردا خاليا من الدم لكني لم أفقد الوعي، كنت أعي وأحس وأرى كل شيء، ورأيت إصبعك الصغير الأبيض فوق إصبعي الطويل الأسمر يضغط حتى أصبح العرق أبيض، والجسد الناعم الصغير أبيض، وكل شيء أبيض، ولكنه بياض غريب لا ينبعث من الشيء، وليس هو باللون، ولكنه ينبعث من العين ذاتها، كأنما هو نقطة بيضاء على النني الأسود أو غشاء أبيض التصق بقاع العين. •••
لم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أن الفكر كالجسد يولد في الألم، كنت أظن أن أفكار الناس تولد دون أن يشعروا بشيء، لكني عرفت أن الألم ضروري، وأن الفكر الذي يولد بغير ألم لا يولد، إنه يظل كتلة لحم تنبض كجنين في بطن أمه، يتحرك بفكر آخر غير فكره، كملايين الكتل المتحركة في الجو والبحر والأرض، كالهوام، كالسمك، كالتماسيح، كملايين البشر التي لم تعرف الألم.
كان فكري وليدا ضعيفا لكنه استطاع أن يدفع جسدي الكبير الطويل في الطريق إلى عيادتك، كنت أريد أن أراك أو أريدك أن تريني، أن تنظري في عيني وتعرفي أنني أديت المهمة، أنني كنت أداتك الدقيقة، لم أكن إلا أداة دقيقة ولكنني نجحت، وكنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكنك لم تكوني بالعيادة، بحثت عن بيتك فلم أجده فعدت إلى بيتي، ودخلت حجرة أبي، كنت أعرف أن حجرته خالية وسريره خال ومعطفه فوق الشماعة خال، لكني وقفت في منتصف الحجرة أحملق في المعطف في دهشة وكأنه لم يخل إلا هذه اللحظة.
وذهبت إلى الجريدة ووجدت مكتبي، لم يكن هو مكتبي القديم الصغير، كان مكتبا أكبر ومن فوقه بنورة، ورأيت فوق البنورة كتابا صغيرا، نقشت على غلافه حروف أربعة، ربما رأيت الاسم من قبل، بل الكتاب أيضا كنت أراه كثيرا على مكتبي وربما كل يوم، لكن أصابعي لم تكن تمتد إليه، لم أكن أحس بحاجة إلى أن أفتحه أو أقرأه، لم أكن أقرأ شيئا، كنت أكره الكلمات المطبوعة، الحروف كلها تبدو ليس سواء كحروفي المطبوعة في مساحتي المحددة تصب في العمود كما تصب الخرسانة.
في تلك الليلة امتدت أصابعي إلى الكتاب، كان الفصل شتاء والليل هبط والجريدة خلت وأنا أجلس وحدي إلى مكتبي، لم أكن أرى الكلمات بسبب الظلام؛ فأضأت المصباح إلى جواري، وسقط الضوء على الصفحة، ولأول مرة تظهر تحت عيني كلماته وأقرؤها، لم أكن أنتقل من كلمة إلى أخرى، كأنما كلماته ليست جملا تقرأ الجملة بعد الجملة، كانت عيناي تثبتان على الجملة الواحدة ليخطر لي شيء، فإذا ما انتقلنا إلى الجملة الثانية خطر لي شيء آخر، كرءوس الدبابيس أو كأرجل النمل الدقيقة، كانت الخواطر تمشي في رأسي وأكاد أسمع دبيبها، خواطر ليست جديدة بل هي قديمة قدم الأزل، كأن يولد الإنسان من بطن أمه أو أن يموت الإنسان ويدفن في قبر، لكن كل شيء أصبح عجيبا مثيرا للدهشة، ثم تأتي جملة جديدة تجعل الدهشة قديمة والحياة قديمة والإنسان قديما، وأكاد أحس البرودة تنتقل من أطراف أصابعه إلى القلم، وعتامة كالسحابة تحوم حول عينيه، لكن السحابة سرعان ما تنقشع وتسطع الحرارة فوق السطر المتألق الجزل، وأكاد أطمئن لحظة فإذا بنبضي يزيد وأنفاسي تسرع، وأحاول أن أسبق اللحظة وأختلس النظر إلى السطر القادم بشيء من الرهبة.
كالسحر، كالسر الخفي، يكمن في الكلمات المألوفة القديمة حين يضعها الكلمة وراء الكلمة؛ فتصبح فوق السطر كلمات جديدة لم أسمعها ولم أقرأها من قبل، كلمات خاصة به وحده، تصنع له دون الناس لغة أخرى ، وأحزانا أخرى، وأفراحا أخرى، تبدو لنا غريبة، لكنا نعرفها، نكاد نحسها، في مكان ما من أنفسنا العميقة، بل إنها هي أعماقنا البعيدة.
ولأول مرة يتراءى لي وجه أمي، كان مستديرا أبيض في وسطه فتحتان مستديرتان زرقاوان زرقة بحر الإسكندرية، وكان صدرها مستديرا أبيض، في وسطه شيء مدبب أسود سواد العرقسوس أدسه في فمي وأمصه، فإذا بسائل دافئ يملأ فمي وجوفي ويثقل جفناي فأغمض عيني وأنام.
وفي أول لقاء معه كان الفصل لا يزال شتاء، ورذاذ المطر ينقر على نافذتي في الجريدة، كنت رأيته من قبل مرات كثيرة، لكني هذه المرة رفعت عيني من فوق مكتبي وأظنه في اللحظة نفسها كان قد رفع عينيه من فوق مكتبه، وتلامست عيوننا الأربع بلا شيء يفصل بينها، فأصبح بياض عينيه فوق بياض عيني، والسواد فوق السواد، وكدت أرى الزرقة اللامعة من تحت السواد.
Página desconocida