ولعله كان يعرف؛ لأن يده امتدت بثبات وبغير تردد، يد مدربة تعرف طريقها، تعرف بدقة موقع النقطة، وهناك في أسفل صدري، في المثلث الصغير تحت معدتي، كنت أحس يده، قوته، ثابتة، باردة، كقطعة فوق جبهة ساخنة.
ووضعت يدي على جبهتي، كانت باردة هادئة والسماء أصبحت لها زرقة واضحة كزرقة البحر، ورق الشجر أيضا خضرته واضحة، كل الأشياء بدت بألوانها المحددة، وحينما سرت في الشارع كانت خطوتي أسرع، كنت أريد أن أراك أو أريدك أن تريني، أن تنظري في عيني وتعرفي أنني أديت المهمة، أنني كنت أبحث عن عينيك لأرى فيهما فرحة نجاحي، لكنك لن تكوني بالعيادة ولم أعرف طريق بيتك، لماذا أخفيت عني عنوان بيتك؟ ووجدتني أعود بسرعة إلى بيتي، وأندفع إلى حجرة أبي، كنت أظن أنني سأضع بين يديه خبر نجاحي وأرى في عينه فرحي، لكن حجرته كانت خالية وسريره كان خاليا ومعطفه فوق الشماعة كان خاليا، ووجدتني أقف كالتمثال أحملق في المعطف الخاوي. •••
كنت لا أزال أذهب كل يوم إلى الجريدة، وكل يوم يواجهني الحذاء الصغير المخطط من تحت المكتب، والساق تهتز فوق الساق، ثم يرفع وجهه من فوق الورق ويرن في الجو اسمي، دولت، لكن الحروف فقدت في أذني فخامتها وخشونتها، وبالذات حرف الدال لم يعد إلا دالا كأي دال في أي كلمة؛ دولة، دش، دلو، لم يعد له وقع خشن فوق جلدي ولم يبعث الدوران في نقطة الوسط.
وأصبح يناديني بحروف أخرى، في كل مرة يبحث عن حروف جديدة، عن خشونة جديدة، يحسها الجلد فيقشعر وتبرز فيه منابت الشعر كالدمامل الصغيرة، وفي يوم صفعني على وجهي كنوع من الخشونة، لم يكن أحد صفعني من قبل، ربما ضربت في المدرسة وأنا صغيرة على أصابعي وعلى ركبتي، لكنني لم أصفع أبدا على وجهي، وبدت لي الصفعة غريبة، ارتطمت يده الباردة بعظام وجهي ولم تؤلمني، لكني أحسست رطوبتها وبلولتها فوق صدغي كالبصقة، ولم أخرج منديلي من جيبي وأمسحها، كان ملمسها البارد الرطب يملؤني بالكبرياء فاستطعت أن أرفع عيني إلى وجهه، كان وجهه مسطحا أملس بغير ملامح كبطن اليد.
في هذه اللحظة زممت شفتي، وحينما ابتلعت لعابي وجدت له طعما مرا، وهبطت المرارة إلى جوفي وبدأت تضغط على صدري، أكاد أحسها بكفي تحت جدار بطني، كانت صغيرة أول الأمر ومستديرة كالحبة أو البلية، تغوص حين أضغط عليها بإصبعي وتتوه في أحشائي، لكنها سرعان ما تطفو مرة أخرى وأحسها تتحرك تحت يدي، كانت تتلوى حول نفسها كالدودة، وأحيانا تلدغني فأضغط بيدي عليها لأخمد أنفاسها، لكنها كانت تفلت من تحت يدي وتنكمش ثم تنزلق لترقد بعيدا في القاع، لم تكن ترقد ساكنة لكنها كانت تزوم وتنبش وتقرص، وتمد بوزها الطويل داخل معدتي، وتنفث نفسها في صدري ساخنا مرا كالعلقم، يصعد إلى حلقي ويمتزج بلعابي وأحاول أن أبصقه لكنه لا يبصق، وأحاول أن أتقيأ لكي أفرغ أحشائي، ويظل هو يملأ جوفي بماء ملحي كماء البحر.
ولم أصدقك في هذا اليوم، لم أصدق أن الأولاد يمكن أن يخلقوا في بحر من المرارة، وخرجت من عيادتك دون أن أدفع لك جنيه الكشف، وذهبت إلى الجريدة، كنت أعلم أنني لم أعد أكتب، ولم أعد أملأ مساحتي لكني لم أكن أعرف مكانا آخر.
ولم أجد مكتبي، ولم أر الحذاء الصغير المخطط من تحت المكتب الآخر، كانت مربعات الأرض تبدو غريبة بغير مكاتب، والوجوه كانت غريبة، وكل شيء كان غريبا، فكأنني دخلت مكانا آخر.
كان جسدي ثقيلا متورما، لكني واصلت السير إلى بيتي، وعند الباب وضعت يدي في جيبي لأخرج المفتاح، لكن المفتاح لم يكن في جيبي، فطرقت الباب بإصبعي ثلاث طرقات ليعرف أبي أنها طرقاتي، ورأيت الباب ينفتح لكن الوجه لم يكن وجه أبي، كان وجها غريبا لم أعرفه ولم يعرفني.
عدت إلى عيادتك في ذلك اليوم، لكن عيادتك كانت مغلقة مظلمة، وكنت قد أصبحت عاجزة عن المشي؛ فجلست حيث كنت على الرصيف أمام عيادتك.
ولم أستطع أن أجلس، كان بطني العالي يعوقني فاستلقيت على ظهري، لكني بدأت أحس الآلام في عمودي الفقري، حاولت أن أنقلب على جنبي لكن شيئا كالجسم الغريب بدأ يزحف داخل بطني هابطا كالسكين يشق لنفسه طريقا في لحمي، أردت أن أصرخ؛ لكني خشيت أن يسمع الناس صوتي فيستيقظوا ويفتحوا نوافذهم ويطلوا علي، وكان فخذاي قد أصبحتا عاريتين ومن تحتهما تجمع الماء المر كالبركة الصغيرة، لم أكن أعرف أن جسمي قادر على اختزان كل هذا الماء العكر. وتلفت حولي، كانت البيوت كلها مغلقة مظلمة، والشارع ساكن، وهواء الليل البارد يضرب جسدي الساخن، كنت أحس السخونة تذيب رأسي وتصهره كما تصهر كرة من الحديد، ويذوب عقلي من تحت العظام، فلا أكاد أفيق إلا على صوت صفقات الهواء على جسدي كصوت الماء حين يصب على الحديد الساخن.
Página desconocida