255

Pensamientos de Imaginación

خواطر الخيال وإملاء الوجدان

Géneros

إن القلب الذي أصدرها لم يعترف بأنه بائس تعس، ولكنه اقتنع بأن السعادة مستحيلة، وإنه ليجد الدعة والسكينة في هذا الاستسلام والخضوع كمنكود سقط من عل فتهشم، فطفق ينظر إلى الجواهر المتلألئة في السماء والتي رصعت بها قبة ليلته الأخيرة فينفصل عن نفسه وينسى واجبه، ولا يفكر مطلقا في إصلاح ما استحال إصلاحه، ويسكب صفاء الأشياء الإلهي في نفسه لطفا خفيا ويفتح ذراعيه اللتين لا تستطيعان أن تنهضا جسمه المتحطم، ويمدهما صوب الجمال الخالد الذي يلمح خلال هذا العالم المحفوف بالأسرار.

نضبت عبرات الألم دون أن يشعر لتمهد ذرف دموع نشوة النفس وقت تجردها، وبالحري ليندمجا في قلق مزج بالملذات.

وفي بعض الأثناء ينفجر يأسه فلا يلبث أن يفيض الشعر، وتنتشر الألحان الحزينة الفاجعة وهي ملفوفة بأصوات مترافقة فخمة لا يدركها الوصف، ثم يطفو العظيم منها ويغطيها جميعا بانسجام مؤثر.

وفي النهار بعد جلبة عظيمة ومعركة عنيفة يبقى العظيم وحده وتتحول الشكوى إلى نشيد لتمجيد الخالق يدور بصوت رنان وهو محمول وسط أنغام ظافرة، وتسمع حول الغناء في الأصوات الغليظة والحادة من البيانو جموعا كثيرة من الأصوات السريعة المشتبكة المنتشرة انسياب نشيد الاستحسان، وهو ينمو وينتفخ ويضاعف بدون انقطاع وثباته وفرحه، إن ملامس البيانو ليست بكافية، إذ لا يوجد صوت لم يشترك في هذا الاحتفال، فالغليظة برعودها، والحادة بتغريدها، قد تجمعت كلها في صوت واحد، إنها واحدة ومتعددة كالوردة الرائعة التي رآها «دانتي» وكانت كل وريقة من تويجها روحا سعيدة.

ولقد كفى غناء مركب من عشرين صوتا لتأدية تأثرات متباينة (تركنا هنا جملة لم نستحسنها، إذ كلها تشبيهات بأقسام الكنيسة واصطلاحاتها الدينية التي لا نجد لها تعريبا، وهي في ذاتها لهذا السبب عديمة الأهمية).

الرغائب والأماني قوة لا تغلب ولا تقهر! ولقد حاولوا إخضاعها بلا طائل وما فتئت منابعها جارية، ولقد تكدست على المنبع جهود ثلاثين عاما من أعمال وحساب وتجارب فظن أنه جف ونضب، وما لبث أن مسته نفس عظيمة حتى تفجرت ينابيعه وكانت أشد من أيامها الأولى فتحطمت الجسور، ولما طغى الماء اكتسح التيار المواد الثقيلة التي سد بها المنبع فزادته قوة فوق قوة، ومن غريب المصادفات أنني رأيت ثانية في هذه الآونة مناظر الهند الطبيعية وهي وحدها، بما أوتيته من العنف والتضاد، حرية بأن تعد الصور لمثل هذه الموسيقى.

وحينما تهب الرياح الموسمية وتتكاثف السحب المربدة فتكون سورا هائلا كسواد القدر يغير على الزرقاء والدأماء، وفي هذه الأكداس الفحمية تطير أسراب من النوارس لا يدركها الحصر، وترى ذاك السواد المرعب وقد شابته هذه الأجنحة البيضاء يزخف على الغبراء ويلتهم الفضاء ويغرق رءوس الأرض في أبخرته.

أبحرت وقتئذ السفن، وفي آخر يوم جميل رأيت على بعد جزائر «ملاديف» وهي اثنا عشر ألف جزيرة صغيرة من المرجان في بحر من الماس وجميعها تقريبا مقفرة، نام الماء في خلجانها الصغيرة فزان رصفها بهداب من لجين.

وترى الشمس ترشقها بوابل سهام من نار وبمنعرج قنواتها ينساب ذوب النضار فيفجر اللجج الماثلة، وكأن البساط العظيم السائل وقد تشقق من اضطراب الأمواج معدن مطروق مطعم بالأشكال العربية، وقد لمع البرق فوق ظهر اليم بآلاف من وميضها لا يدركها العد كما تتألق الجواهر على الدروع المرصعة، فكأنها كنز لأحد ملوك الهند من أسلحة وحلي وخناجر مقابضها من الصدف، وملابس مرصعة بالصفير، وخوزات محلاة بالزمرد، وأحزمة مزينة بالفيروز، وإستبرق لازوردي موشى بخيوط الذهب ومرصع باللآلئ.

بماذا نقارن هذه السماء البيضاء الناصعة؟ هل رأيت غادة تختال في برد شبابها وصحتها وهي تنتفض من رجة الملذات وقد تحلت بأفخر مظاهر الزينة ليلة زفافها وأنشبت مشطها العسجدي في شعرها، وازدان جيدها بعقود اللآلئ، وتدلى من أذنيها قرطان من ياقوت، وحينما يضيء لألاء هذه الجواهر ورد بشرتها الحي يعلق في أغلب الأحيان على جبينها نقابا أبيض خفاقا، غير أن وجهها يملؤه بنوره، وترى ثوبها الرقيق الأبيض الذي يخيل إليك أنها تختبئ فيه وقد صار لها فخرا زائنا.

Página desconocida