Pensamientos de Imaginación
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Géneros
ربما استغرب القارئ أو استهجن الأوصاف الآتية التي يسندها علماء البسيكولوجيا إلى الفكرة، ولكن الغاية تبرر الواسطة، وما هي إلا وسائل يستعان بها على فهم الفكر، فتراهم يعيرون الفكرة وزنا فيقولون: فكرة ثقيلة وخفيفة، ويعيرونها لونا فيقولون: فكرة قاتمة وسوداء وصافية، ويعيرونها أبعادا فيقولون: فكرة عريضة وضيقة ومرتفعة وعميقة وسميكة ... ويعيرونها خاصية المتانة فيقولون: فكرة متينة، وينسبون إليها مذاقا فيقولون: فكرة حلوة ومرة وتافهة، ويعيرون الشعور حرارة فيقولون: قلب بارد وحار.
وهذا الاتفاق الإلهامي ذو التأثير العظيم في لغات الأمم هو منبع الإنشاء الشعري، ولولاه لاقتصر الشعراء على تبيان أسباب العواطف ونتائجها، وأحجموا عن تصوير العواطف نفسها.
يستطيع «راسين» أن يظهر لنا نتائج حب «فيدر» وجميع الحوادث التي سببها، ولكنه حينما يريد أن يكشف الغطاء ويزيل الخفاء عن شعورها يستعمل هذه الصيغة: «أشعل الله في أحشائي نارا لا تبقي ولا تذر.» (راجع سيرة فيدر في بلاغة الغرب).
وإن تعدد الرموز المتناهي المستعملة في تمثيل الحب تكاد تضحكنا؛ إذ تظهر عجز الكتاب عن تعيين شيء غير مادي مثل قول «تييوفيل جوتييه» عن المراهقين بأن «نفوسهم كلون اللبن»، ولكن ذلك العجز ولو أنه لا يضر بالعمل الفني فإنه يوجد صعوبة ما يمكن للناظر أن يرى فيها أصل الأسلوب الشعري وحالته، ومن هنا تظهر خصيصة الكلام الذي يخاطبنا به وفضله في الابتداع وأهميته.
وحينما يجد الشاعر نفسه غير قادر على إظهار النفس يضطر لأن يبحث عن طرق غير رأسية وتشبيهات ليكشف عنها الحجب، فالصور هي سر الكلام وروحه.
فلنقارن بين شاعرين مثل «شكسبير» و«راسين» دون أن نرجع إلى البراهين النظرية، فكلا الشاعرين يعرف قلب الإنسان، ألم يك «شكسبير» أكثر شاعرية بالنسبة لغزارة الصيغ الطلية التي وجدها للتعبير عن عالم الخيال؟ وإن نزعنا الصور من «هوميروس» و«بيندار» و«إيشيل» فماذا يبقى؟ لا يبقى إلا رواة وأخلاقيون لا شعراء.
فالموسيقي يسير غالبا على النهج الذي يتبعه أهل الأدب، ولا يجري على أثره لينشئ استعارة ما وينمقها كما يقع ذلك لبعض المصورين الذين لا يجيدون، وإنه ليخضع لنفس ميول التصور ونزعاته في عمل مستقل في نفسه، ولو أن بينه وبين غيره صفات مشتركة به فهو أيضا يريد أن يعبر عن النفس لا عن ظواهرها الخارجية كالحفار والمصور والممثل بالإشارات والراقص بل عن النفس ذاتها، وحينما لا يستطيع التعبير عن شيء خفي غير مادي ولا محسوس لا صوت له ولا لون يعمد إلى معادلات اصطلاحية وتشبيهات ينشئها الإلهام بين الأشياء الحقيقية والفكرة، وفي بعض الأحيان لا يجد له مناصا من ذلك.
مثال ذلك: أنه إذا أراد أن يعبر عن عواطف بدلا من أن تكون ظاهرة وممثلة بالصوت والإشارة فإنها بالعكس لا نتيجة لها إلا السكوت والسكون وتأملات الفكر، فيجد الفتى نفسه مضطرا لأن يعير الطبيعة حركة وقت سكونها ولهجة عند بكمها، ووقتما تعوزه ملاحظات الكلام الطبيعي يركن إلى تصوره، ويفرض أن الحياة العقلية المبعدة في أعماق النفس تجسمت في أشكال محسوسة، وينشئ من موضوع بسيكولوجي محض موضوعا وصفيا يشمل الصور والألوان، والرموز التي تنتج هي من أهم المناظر التي لم تبين تماما في اللغة الموسيقية.
نريد الآن أن نأتي ببعض أمثلة للصور في الشعر وأخرى في الموسيقى لنعرف وجه تشابههما في التصوير.
نشاهد في رواية «فوست» أن عواطف الدكتور فوست وهو في غرفة عمله من هموم وأحزان وضعف عزيمة وشقاء نفس وآلام أدبية قد مثلت بصورة مستعارة من الألوان، إذ يقال عن شخص حل به السأم وزهد في الحياة: «ساورته فكر مظلمة.» كما قال «راسين» في رواية «بريتانيكوس»: «حزن مظلم.» وقال «شكسبير» عن لسان «كلوديوس» عم «هملت» حينما رآه كئيبا فريسة لآلام أذهلته: «ما لي أرى هذه السحب ما فتئت تحيط بك يا هملت.» وهذه الكلمة استعملها «بوسويه» في حديث فخم يخاطب به قبر «كونديه»: «هلموا سراعا يا عظماء الرجال، وأقبلي اليوم يا أنوار العالم وأنت متسربلة بآلامك كأنك مشتملة بالسحب.»
Página desconocida