فإن الحادث في القرية شيء عظيم، فهو ريح شديدة العصف تمر على الماء الراكد من أثر الملالة، فالناس لا يجدون في القرية ما يتحدثون عنه، فإذا مر بحياتهم حدث كهذا أصبح تاريخا يعتبر الذين عاصروه خالدين في حياة القرية وتاريخها.
ولكن حصان يسري لم يترك لهم فرصة طويلة يلوكون فيها حادث القتل الذي ارتكبه، بل هو يعاجلهم. - يسري. - نعم. - حصانك. - ما له؟ - فقأ عين عبد الشافي بن سعيد أبو عرابي. - ماذا؟
وفي هذه المرة يذهب سعيد إلى يسري ويمسك بخناقه، مقسما بأغلظ الأيمان بأنه قاتل الحصان أو قاتل يسري، ويتجمع الناس ويحولون بين سعيد ويسري وتبدأ المفاوضات، ويسري سعيد، فقد أحس الناس به هو أخيرا، وها هم أولاء يجتمعون حوله ويفاوضونه ويفاوضهم.
وتتوالى أحداث الحصان، فهو يقطع حبله ويعتدي على براسيم الآخرين، وهو ينطلق في القرية في جنون أحمق، يكسر أرجل الناس أو أبوابهم، أو يوقع ما يعرشون به على بهائمهم، أو هو يعتدي على هذه البهائم فيجعل أصحابها يعودون بها إلى السكن، ولعل أشد ما آلم الناس من الحصان وصاحبه ما فعله الحصان بالمصلى التي أقامها أجداد أجدادهم هناك عند مجرى النيل، فقد دخلها الحصان فهدم قواعدها، ومزق الحصير فيها، ولعل هذا الحادث بالذات هو أسعد ما سعد به يسري حتى لقد أغدق في مساء هذا الحادث على حصانه من السكر قدرا لم يشهده الحصان من قبل.
أصبح يسري هو شغل القرية الشاغل، وأصبح الناس يبتعدون عن مكان الحصان قدر جهدهم، وألقى الحصان على القرية ظلا من الرعب ثقيلا، وليس أفتك بالإنسان من الخوف، ولا يزري بالإنسان شيء قدر شعوره أن الذعر والهلع يحيط به من كل جانب، وما أشد الهول حين يكون العدو حيوانا أعجم لا يعقل ولا يفهم، وإنما يخرب لوجه الخراب بلا هدف ولا فكرة ولا غاية ينتهي إليها، ويسري سعيد، فليمت الناس من الخوف أو من الغضب، فلقد أصبح هو شيئا يذكر ، ومقصدا يسعى إليه.
وفي يوم صحا يسري من نومه وذهب مسرعا إلى حصانه؛ مجده وعزه وأمله الذي تحقق، وذكره الذي ذاع، واسمه الذي انتشر، ماذا ...؟ ما الذي جعل الحصان في هذا الشكل الذي هو عليه؟ لا يمكن ... غير معقول ... لقد مات الحصان ... مات ... كيف؟ ... لا يهم ... أمسموما مات، لا يهم ... هل مات من كثرة السكر؟ لا يهم، لقد مات ... أحس يسري أن اسمه هو هذا الممدد جسدا من غير روح ... وعما قريب يصبح عدما بلا جسد ولا روح ... لا يمكن ... غير معقول ... إن حصاني لا يموت ... إنه لا يموت ... لا يموت، وفجأة انتفضت في جسم يسري المرارة التي اختزنها قبل أن يعرف الحصان، وانتشر في جسده الحقد الذي دفنه فيه طوال عهد الحصان، ووجد نفسه يحمل الحصان الميت ويخرج به من البيت، محطما باب البيت، صارخا في الناس وهو يعدو في كل متجه ... إنه لم يمت، إن حصاني لا يموت ... لا يموت ... لا يموت.
وما هي إلا صرخات قليلة ... وخطوات أقل من العدو الأحمق العربيد المجنون حتى انهار يسري، ومن فوقه الحصان يكتم أنفاسه القليلة الباقية.
واختلط الجسدان حتى لا يستطيع أحد أن يستبين أحدهما من الآخر، وقبل أن يدركه أحد، تلحق روحه بروح الحصان الذي نفق، ويتجمع حوله أهل القرية، ولا تلتقي نظرات ولا كلمات، وإنما يشيع أمن إنساني فارق الإنسان فيهم حينا ثم عاد.
لا مسئولية بغير مساءلة
مجلة الإذاعة والتليفزيون
Página desconocida