وكان للمتنبي بصيص من أمل في أبي شجاع فاتك، وهو من كبار قواد دولة الإخشيد، ولكن الموت عاجله فأطفأ آخر وميض لمطامع الشاعر، وتركه مع كافور يتنازعان البقاء، ويتباريان في فنون الدهاء والرياء.
لم يبق إذا لأبي الطيب عيش بمصر، ولم يبق له إلا أن يرحل وأن يرحل سريعا، فقد ينطبق عليه الفخ في أية لحظة، وقد تنقض عليه الصاعقة وهو يتأمل في جمال الأفق. ولكن ماذا يصنع وقد نصب له الأسود الأرصاد، وبث خلفه العيون، وعقد العزم على أن يحتبسه بمصر وألا يدع له إلى الفرار سبيلا؟ فقد كان العبد يخشى عاقبة فراره. وكان يخاف بعد أن أذاقه عذاب الهون بمصر أن ينطلق لسانه بهجائه إذا استدبر الفسطاط، وأن يجعل من اسمه سبة الأبد، وأضحوكة الأجيال.
ضاقت الدنيا في وجه المتنبي، ورأى أن حبل كافور أخذ يقترب من رقبته رويدا رويدا، فدبر مع أصدقائه أن يفر من مصر ليلة عيد الأضحى من سنة خمسين وثلاثمائة، وأن يساعده على الفرار صديقه عبد العزيز الخزاعي، وأن يرحل ابنه وعبيده عن مصر قبل فراره بأيام.
وقد تمت المؤامرة ونفذت دون أن يخرم منها حرف، وتسلل الشاعر في هذه الليلة من داره في صحبة صديقه الخزاعي بعد أن ترك تحت غطاء سريره ورقة كتب بها قصيدة في ذم كافور نفث فيها سمه، وشفى غليل صدره، ولطخ كافورا بهجاء مر مقذع يمحي جلده الأسود ولا يمحى، وتزول بشاعة وجهه ولا يزول، ورماه بسخرية لاذعة وكلم ممض أصغت إليه الآفاق، وتداولته الأزمان وتندرت به الأجيال، وبقى بقاء الشمس، وترك للعبد ذكرا خالدا لو كان يطمع في مثل هذا الخلود. ولا يزال أبناؤنا وبناتنا وشبابنا وشيبنا ينصتون في شغف وشوق إلى:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
فيضحكون ويطربون.
خرج المتنبي في هذه الليلة من الفسطاط فارا من وجه كافور ومعه صاحبه الخزاعي، فلما اقتربا من الباب الشرقي ألفيا عنده رجلا ضخما مفرطا في الطول، قوي العضل، موثق الخلق، كأنه صخرة نحتت على هيئة الرجال. ولم يكن فراج القوصي حارس الباب، ولكنه كان ينوب في هذه الليلة عن زوج أخته علقمة السباعي، الذي أراد أن يرفه عن نفسه ليلة العيد بالراحة وبعض اللهو، وكان فراج على قوة جسمه ضعيف العقل خامد الإدراك، ساذجا إلى حد البلاهة، عنيفا إلى حد الجنون، كأنه الهر المستوحش لا تراه إلا متنمرا متوجسا، نشأ في أعلى الصعيد ببلدة قوص نشأة جافية، بين جهل وبداوة وشظف في العيش، فلم تعطف عليه إلا بقليل من الإدراك لا يخرجه من نطاق الحيوان الأعجم إلا بشق الأنفس وبعد لأي وجهد. كان بقوص يرعى الماشية ويعيش معها: يأكل مما تأكل، ويشرب مما تشرب، ويسبح في النيل كما تسبح، وينام حيث تنام ويفهم لغتها وتفهم لغته، ولم يكن بينه وبينها من الفروق إلا أن هذا قائم يمشي على رجلين. وتلك متطامنة تمشي على أربع. وإن أحدا لا يدري إلى الآن أمنها أخذ عقله أم منه أخذت عقلها؟ ولكن الناس كانوا يرون قطيع الجاموس وفيه فراج فيظنونه مالا سائبا، وكانوا في أحيان قليلة يرون فراجا وحده، فيعجبون كيف شرد هذا الحيوان عن القطيع، وكيف ترك هكذا هملا؟ وكان شباب القرية ومجانها كثيرا ما يتندرون به ويهارشونه: جلسوا مساء يوم عند شاطئ النيل، وقد جاء ليسقي قطيعه ويشرب، فسأله خبيث منهم معاجزا: كم عدد قطيعك يا فراج؟ فوقف ذاهلا وقد فتح فاه، ثم بدا على وجهه الجد، وقال في تلعثم: عدد القطيع؟ وماذا أريد من عدد القطيع؟ إنه يأكل ويشرب وكفى. - لو سرق سارق إحدى هذه الجواميس، أكنت تعرف إذا لم تعرف عددها؟ - أعرف كل شيء، والذي أعرفه أكثر وأكثر أن سارقا لو جرؤ على أن يمد يده إلى جاموسة منها لشربت دمه شربا. ثم نظر إلى سائله في سخرية وتحد، وقال: على أن عددها من أيسر الأمور وأهونها، فهذه واحدة، وهذه واحدة، وهذه واحدة ... - كم واحدة إذا؟ فأسرع بعض الشبان ساخرا، وقال: الله سبحانه وتعالى أعلم، فالتقطها فراج في عجلة واغتباط كأنه ظفر بالقول الفصل والرأي القاطع، وصاح في جذل: الله سبحانه وتعالى أعلم.
طلب الخزاعي من فراج في رنة الآمر وعظمة الواثق أن يفتح الباب، فنظر إليه فراج وأخذ يصعد فيه بصره ويصوبه، ثم فتح الله عليه بكلمة فقذف بها في سرعة حتى لا ينساها، وقال: إني لست حارس الباب. - من أنت إذا؟ - أنا فراج. فعلم الخزاعي أن في الرجل بلاهة، وأن عليه أن يسير في الأمر على نحو لا ينفر منه ضعاف العقول. فقال: أهلا بفراج! أين المفتاح يا فراج؟ - ماذا تريد من المفتاح؟ إنه في هذه الكوة، ولكن علقمة أمرني ألا أفتح لأحد. - صحيح، إن علقمة رجل أمين ذكي شديد الحذر، وقد عرف كيف يختار رجلا مثلك أمينا ذكيا شديد الحذر، غير أنه من المحقق أنه أمرك ألا تفتح لأحد يجيء من خارج المدينة، ثم يطرق الباب طالبا الدخول إليها، فإن في ذلك خطرا عظيما، إنها تكون مصيبة داهمة حقا أن يدخل المدينة عدو. ولكنه لا يعقل أن يأمرك بألا تفتح الباب لأي رجل يريد الخروج من المدينة، الخروج من المدينة يا فراج غير الدخول إليها، أين تسكن يا فراج؟ - أسكن في حارة الحمالين بجانب الجبل. - هل بحجرتك فيران؟ - كثير جدا. - عظيم، أإذا أراد فأر في حجرتك أن يخرج منها إلى الحارة أكنت تأبى عليه أن يخرج؟ فابتسم فراج ابتسامة جعلت فمه يتصل بأذنيه كأنه فهم معضلة من أعقد مسائل الفلسفة، وقال: لا. يجب أن يخرج، إن الخير في أن يخرج. - إنك رجل متوقد القريحة. وإذا أراد فأر جديد أن يدخل حجرتك فهل تسهل له سبيل الدخول؟ - لا. أبدا. - هكذا نحن يا فراج. نحن سنخرج، وليس في ذلك أي حرج، ولا يمكن أن يكون علقمة نهاك عن أن تخرج أحدا. - إن كلامك صحيح معقول، ولكن يبقى أن علقمة أمرني ألا أفتح الباب، وهو لم يذكر دخولا ولا خروجا، ولكنك تجيء الآن فتربك عقلي بمسألة الدخول والخروج، وأظن الأحوط لي أن أثبت على أمر صاحبي، فاذهب عني بالله عليك فقد أتعبت عقلي بالحجرة والفيران، وبمشكلة الدخول والخروج، إن أمي حينما أرسلتني إلى الفسطاط لأشتغل بنقل الأحجار للدار التي بناها مولانا كافور، أمرتني أن أطيع علقمة وألا أخالف له أمرا، فاذهب إلى شأنك يا رجل، وبعد قليل يؤذن الفجر، وينبسط النهار، ويجيء علقمة، وهو أعلم مني بمعنى الدخول والخروج.
فظهر الألم على وجه الخزاعي، ورمى بنظرة نحو فراج، ثم أرسلها نحو المتنبي، وكان في هذه النظرة كثير من العجب والدهش والحسرة، وكأنه على سرعة وميضها كانت تقول: أحياة هذه العبقرية الضخمة، وذلك النبوغ الخارق أصبحت معلقة بكلمة يقولها هذا الغر الأبله الذي لا يعقل ولا يبين؟ أذلك العقل الهبرزي، والذهن الوقاد، رمى به نحس الطالع إلى أن يستجدي بسمة رضا من هذا الحيوان الجاهل المعتوه؟ أليس من أضاحيك القدر ومبكياته، أن يقف المتنبي، وهو الفارس الكرار، والبطل المغوار، الذي ملأ خياشيمه غبار الوقائع، ذليلا مستعطفا أمام ذلك الممرور الأحمق، والرعديد المائق؟ أليس من خرف الزمان، وجنون الأيام، أن يخضع الشعر، وتطأطئ الفلسفة، وتتضاءل الحكمة، ويذل المثل الشرود، لهذا الغبي العيي المأفون؟ أهذه تصاريف القدر التي يسمونها؟ أهذه أحكام الفلك الدوار التي يجب أن نقتنع بها راضين أم ساخطين؟
Página desconocida