بلغ الركب بغداد في أصيل يوم من ربيع الآخر سنة ثنتين وخمسين وثلاثمائة، ونزل أبو الطيب وابنه وعبيده في خان من أفخم خانات المدينة، وكانت بغداد في ذلك الحين لا تزال تحتفظ ببقية من عظمة العباسيين وحضارتهم ومجدهم الأثيل مع ما أصابها من ظلم معز الدولة، وإقطاع قواده وجنوده القرى جميعها، ومصادرته الغاشمة للأموال، وكانت عش العلماء وموئل الأدباء والشعراء وملتقى أمم الأرض من كل أفق ودين، وكانت تزخر في هذا الحين بالجواسيس وأصحاب الأخبار، فمنهم جواسيس لمعز الدولة، وجواسيس لكافور، وجواسيس لسيف الدولة، وجواسيس لعضد الدولة ملك فارس، وآخرون للفاطميين ملوك المغرب.
وصل المتنبي بغداد فتشمم الجواسيس الخبر ونقله بعضهم إلى معز الدولة، وأرسله بعضهم إلى ممالكهم على أجنحة الطير، وما كاد معز الدولة يتلقى الخبر حتى بعث في طلب وزيره المهلبي. وكان معز الدولة في التاسعة والأربعين، قوي البناء قوي الشكيمة أصلع الرأس شديد احمرار الوجه له عينان كأنهما عينا نمر، وكان مقطوع اليد اليسرى وبعض أصابع اليمنى، شرسا سريع الغضب حقودا شحيحا، ولم يكن إلا قائدا ماهرا وشجاعا واسع الحيلة، أما الشعر وأما الأدب فكان بينه وبينهما بون بعيد. نشأت به وبأخويه دولة بني بويه، وكان في أول نشأته فقيرا يعيش من جمع الحطب وبيعه، وحينما استولى على بغداد انتزع الحكم من أيدي الخلفاء واستبد به. فخلع الخليفة المستكفي بالله وسمل عينيه، وولى مكانه الخليفة المطيع على أن يكون شبحا من أشباح الماضي لا ينقض ولا يبرم. أما وزيره المهلبي فكان رجلا أديبا شاعرا لين الجانب خصيب الجناب، عرف البؤس مرا أيام شبابه فتمسك بمنصبه حريصا عليه وعطف على الأدباء البائسين، وكان مجلسه منتدى رحيبا للعلماء والأدباء والشعراء أمثال أبي الفرج الأصفهاني والسري الرفاء وابن البقال وابن سكرة وابن الحجاج.
دخل المهلبي على معز الدولة، فسمعه عن بعد وهو يهدر هدير البعير، فلما رآه صاح: لقد قدم المتنبي بغداد الساعة فماذا ترى؟ أليس في قصري من شعراء بغداد والمتطفلين عليها من يزيدون على الحاجة؟ لقد أصبحت معدتي لا تستطيع هضم أشعارهم، وهذه الأموال التي تبعثر في كل عام عليهم أولى بها أن تتدفق على القواد والجنود. - يا مولاي إن المتنبي شاعر مر اللسان مر العود شائك الجانب، فإذا لم تقبل عليه وتملأ فمه بعطاياك فربما خرج عن جادة الأدب، وشعر هذا الملعون له أجنحة لا تمل الطيران. - إنه عرض بي وكاد يصرح بهجائي في بعض مدائحه لهذا العربي المفتون الذي يدعو نفسه سيف الدولة، فلن يطأ بساطي. ولن ينشد أمامي شعرا. إن له أن يقيم ببغداد كما يشاء، ففي بغداد من هم شر منه من حثالات الأقطار ونفايات الأمم. - إن الرجل يا مولاي ليس ممن يستهان بأمرهم، وليس ممن توصد الأبواب في وجوههم، فقد بلغ منزلة من المجد الشعري يجب أن نخضع لها راضين أو كارهين، والذي أشير به ألا نبدأ الرجل بالعدوان، وألا نلقي بأنفسنا عند أقدامه متزلفين متملقين كما فعل الغر سيف الدولة، وكما فعل المأفون الجاهل كافور، فكان جزاؤهما منه الجفاء وشر الهجاء. والذي أنصح به أن ننتظر ونترقب، فإذا جاء إلى القصر مستجديا متواضعا كما يجيء غيره من الشعراء، والتمس الإذن بمديح مولانا فتحنا له الأبواب مرحبين، وأجزلنا له الصلة مغدقين، أما إذا لم يفعل شيئا من ذلك فليس له عندنا إلا أن نترك لجواسيسنا مراقبته من بعيد، وأن نجعل إقامته ببغداد جحيما لا تطاق. - أليس بين شعراء بغداد وأدبائها من يبلغ منزلة هذا المتنبي، ومن يستطيع أن يحطم صلفه وكبرياءه؟ فإن من العار أن يقال: إن دار الخلافة أقفرت من الشعراء فلم يقف فيها شاعر في وجه هذا المغامر الآفاق. - إن شعراء بغداد يا مولانا كالكلاب المضراة، وهم رهن إشارتي، ولكني لا أعطي هذه الإشارة إلا في وقتها، ويجب أن ننتظر كما قلت. - فلننتظر إذا، وإني سأترك لك الأمر كله. وانتهى الحديث فخاضا في شئون أخرى.
وعلم علي بن حمزة اللغوي بقدوم المتنبي، فأسرع إلى الخان وطلب منه أن ينزل بداره فقبل بعد رجاء وإلحاح. وكانت دار ابن حمزة في ربض حميد بالجانب الغربي. فأقام بها أبو الطيب مدة ثوائه ببغداد، وكان يتردد عليه كل يوم شعراء المدينة وأدباؤها ورجال اللغة فيها، واتصل به في هذه الفترة تلميذه أبو الفتح عثمان بن جنى، وكان شابا لم يجاوز السادسة والعشرين يتوقد ذكاء ويلتهب غيرة على التحصيل والمدارسة، واقتنص علي بن حمزة الفرصة، فروى عنه ديوانه ووقف منه على ما أشكل عليه من ألفاظه ومعانيه، ومرت بالمتنبي أيام وهو على تلك الحال حتى فاجأه ابن حمزة يوما سائلا: ألا تريد أن تزور الوزير المهلبي؟ - إني أنتظر أن يدعوني إليه. - إن الوزراء والأمراء في بغداد لا يدعون الشعراء، وقد جرت عادة العظماء مثلك أنهم إذا نزلوا بلد ملك أو أمير أن يبدءوه بالزيارة. - إنني لن أبذل نفسي رخيصة، وكان يجب على المهلبي بعد أن علم بوصولي أن يلح في أن أكون ضيفه، وأن يفرد لي جناحا بقصر الخلافة. فنظر إليه ابن حمزة في عجب ودهشة، وقال: إن وزيرنا المهلبي رجل شاعر أديب سخي الكف، ولكنه إلى كل ذلك مغال في تقدير كرامته معتز بكبريائه، يرى أن من دون مقامه أن يستجدي شاعرا أو يتملق أديبا، على أني أعتقد أنه ينتظر زيارتك في قلق وشغف. - فلينتظر إذا طويلا فإني لا أزور هذا الخليج الماجن. - لا يا أبا الطيب، إنك رجل جم الآمال بعيد المطامح، وقد قضيت الحياة في كد ووثوب، فبلغت من بعد المنزلة مكانا قصيا، ولكنك لم تصل بعد إلى الغايات التي أقرؤها في شعرك. لقد سقطت من سلم الطموح مرتين كنت فيهما موشكا على القمة: مرة عندما غضبت على سيف الدولة، ومرة عندما غضب عليك كافور، فإياك وأن تسقط الثالثة! إن لنا أملا كبيرا في المهلبي وفي معز الدولة، وإن رجلا مثلك لو ظفر بمودتهما لظفر بكل شيء. فإذا كنت قد طمعت عند كافور في ولاية، فهنا مصدر الولايات، وهنا النبع الفياض برفيع المناصب، وهنا خلافة المسلمين التي جعلت كافورا ملكا، وسيف الدولة أميرا. - كنت أحب أن يبدأ مهلبيكم بدعوتي، والذي أخشاه الآن ألا أقابل بما يليق بمثلي من الكرامة. - هذا وهم يا سيدي. إن شهرتك غرست في قلوب الناس منك رهبة ولم يخل منها قلب أمير أو وزير. اذهب إليه يا أبا الطيب غدا. - سأذهب.
وفي صباح اليوم الثاني ركب أبو الطيب في عظمة تشبه عظمة الملوك وخلفه العبيد والخدم بين فارس وراجل، وقصد إلى قصر الخلافة فاستقبلته حاشية الوزير في إكرام وحفاوة، وأسرع المهلبي فأذن له فدخل عليه المتنبي في تؤدة وجلالة سمت مرتفع الصدر شامخ الأنف، كأنه أسد بن عمار الذي يقول فيه:
يطأ الثرى مترفقا من تيهه
فكأنه آس يجس عليلا
فحيا الوزير ورد الوزير تحيته في شيء من الفتور بعدما رأى من تشامخه وتعاظمه، وتقدم المتنبي فجلس إلى جنبه حتى التصقت ركبته بركبته، وكان بالمجلس أبو الفرج الأصفهاني وابن البقال الشاعر، واتجه المهلبي إلى أبي الطيب، وقال في تهكم لا يكاد يلمح: لقد زرت بغداد منذ شهر يا أبا الطيب ولم تزرنا، أتعد هذا تجنبا أو تجنيا؟ - الأعذار كثيرة يا سيدي. - الأعذار تقول: يا أبا الطيب إنك بخير وعافية، وإنك تقضي وقتا طويلا كل يوم في دراسة شعرك مع ابن حمزة وابن جنى. كيف تركت الأسود بمصر؟ - تركته وهو لا يزال أسود. - ألا تزال تهدد الناس بشعرك يا أبا الطيب؟ - إن شعري مرآة أخلاق الناس، وليس على المرآة من ذنب إذا كشفت وجها دميما. - أرجو أن تحسن وجوهنا في مرآة شعرك، فابتسم المتنبي ابتسامة ساخرة، ولم تعجبه ملاقاة المهلبي له، وقال:
وأحسن وجه في الورى وجه محسن
وأيمن كف فيهم كف منعم - نترك الإحسان والإنعام الآن يا أبا الطيب حتى نسمع. والتفت إلى أبي الفرج وأخذ يطارحه الشعر ونوادر الأدب، والمتنبي يشترك في الحديث متعاظما، يخطئ هذا ويجبه ذاك، حتى انقض المجلس فخرج مغيظا ساخطا؛ لأن المهلبي لم يحسن لقاءه كما يحب، ولم يستجد مدحه كما كان يؤمل، واشتد غضب المهلبي على المتنبي؛ لأنه لم يمدحه؛ ولأنه أظهر من الصلف والتيه ما لا يجمل بمجالس الوزراء، فصمم العزم على الكيد له وتلقينه درسا لا ينساه في وجوب التطامن للوزراء والخضوع للعظماء.
Página desconocida