لكن على مقربة منه قصر فخم، هو الآن دار لإحدى مصالح الحكومة. وأذكر أني عرفته من نحو ربع قرن، إذ أتيت لأول مرة من الريف إلى مدينة القاهرة، ودخلته مع صديق طفل يتصل بوشائج القربى مع خادمة من خادمات ذلك القصر الذي كان يسكنه وقتئذ أهل الغز والإقبال.
أجلسنا في غرفة صغيرة، وكان ذلك أول عهدي بنور الكهرباء، فأخذت أعبث وألعب كما يعبث الطفل الريفي، وأتسلى بإصدار ذلك النور، فأدير الزر الكهربائي، وأنظر وأدقق حتى جاءت قريبة زميلي الصغير، وأخذت قسطها من مسامرته ومداعبته، ثم انصرفت عنا، وانصرفنا إلى حيث كنا نبيت. •••
مرت أيام وأيام، وللأيام أدوات ومعاول تعمل بها في الكون إصلاحا وإفسادا، وتشييدا وهدما. فهدمت في تلك الدار مظاهر العز والإقبال، وورثها غير أهلها الأولين، ثم تقادم العهد، فوصل إليها الخراب، فاغبرت وأصبحت لا تشرق بما كانت تشرق به من بهجة وسعادة، ثم مرت أيام تلو أخرى، فأغلقت أبوابها وخزائنها على ما كان فيها من رياش وأثاث، ثم مرت أيام تلو أخرى، ففتحت تلك الخزائن، وعرضت طنافسها وزرابيها وأنساب في غرفاتها المساومون والدلالون، ثم مرت أيام تلو أخرى، فابتاعتها الحكومة، ودخل فيها المهندسون والبناءون، وشقوا في جوانبها، وبدلوا في أوضاعها، ثم مرت أيام تلو أخرى، فسكنها مستخدمو الدولة من العمال والكتاب والحجاب، وأصبحت موضعا تطؤه أقدام الخاصة والعامة، وكلهم يرى فيه له حقا.
ومجمل القول أن هذه الدار تغيرت من حيث معالمها، وتغيرت من حيث أقوال أصحابها! وتغيرت من حيث زوارها وقاصدوها، وفعلت بها الغير ما لم تفعله بالدار الضئيلة الأولى. •••
سبحان من لا يتغير ...
نظرة إلى هاتين الدارين المتجاورتين تذكرك أن للمجد أجلا، وإن طال وأخال أن الرفيع الذي دل ثم ذل، واشمخر، ثم اندثر، وشال به الإقبال، ثم حط به الإقلال، قد يحسد المتواضع الذي يبقى على حاله طوال الأيام صابرا ولربه شاكرا.
حياة حول موت
القاهرة في 27 من يونيو سنة 1925
في تلك المقابر، القريبة من قرى مصر، كثيرا ما تجد قبورا خربة متهدمة الأركان، متخلخلة اللبنات، مثغورة الجوانب، كأنها ترمز إلى الموت في أبشع صوره من تهدم وتخلخل وتبعثر.
وقد تجد أشجارا من النبق، أو الجميز غير مشذبة الفروع، ولا متناسبة الوضع، تظلل هناك صهريجا من الماء، كأنه رمز للأسف المقيم الدامع.
Página desconocida