يعيش الأديب في أدبه، ثم يأتيه الموت! ... الموت!!. حينئذ ينضب الحوض الزلال الذي كنتم منه ترتشفون. حينئذ يسكت البلبل الذي كنتم بأغاريده تطربون. حينئذ لا تجد الطيور من كان يداعبها في غدواتها وروحاتها. حينئذ لا تجد النجوم من كان يسامرها في داراتها وعوالمها. حينئذ لا تجد الحسان من كان يعلم كيف يناجي الحسان، ويفهم قدر الحسن والغزل.
حينئذ تفقد المعاني من كان يدق لها الطبول لتتخاصر مع الألفاظ، وتسألون أين الذي كان يخاطب الغصون إذا ماست، والفاتنات إذا دللن، ويحرك الأفئدة العاطفة، ويطمئن القلوب الواجفة ... وتسألون أين الذي كان يحرق البخور ويعطر الهواء؟
إنه الآن في الثرى وتحت التراب ... •••
يا صاحب الجبين الندي، والذهن المكدود: أنك تموت بعد الحياة، وتسكت بعد الخطاب، وأنك تجد الملائكة تهيئ لك عقودا مما ثقبته من لآلئ ودرر. فإذا كان في عقد منها خرزة صغيرة من خزف، فاعلم أنها دليل هذا اليوم الذي هبطت فيه من عالم الأدب الرفيع، فشاركت الناس لحظة في ترهاتهم وأباطيلهم. على قبر الأديب تحية وسلام.
في الغابة
ميدلينح هتر بربل بالنمسا في 7 من سبتمبر سنة 1924
يوم الأحد ... وقد أشرقت الشمس، واعتدل الجو، وأمسكت السماء صيبها بعد أن عبست وأمطرت مدرارا في أيام هذا الأسبوع الماضية.
خرجت من الفندق قاصدا الغابة القريبة، فانتهجت سبيلا مطروقا، ثم عرجت في سبيل آخر إذ سمعت ثمت نغما موسيقيا مطربا.
ولما بلغت مفرقا للطرقات، ألفيت هناك رجلا مبتور الساق، يستند على شجرة وبين يديه آلة من آلات العزف يوقع عليها ذلك النغم الشجي. في مثل هذا اليوم الصحو يحج القوم إلى الغابات من أقصى المدينة والضواحي المجاورة نسوة ورجالا، وفتيانا وشيبا، وأطفالا، ورضعا. وفي مثل ذلك اليوم يقضي الناس شطرا عظيما من نهارهم في حضن الطبيعة بين لفائف الأشجار، ليتنفسوا من نسيمها المجدد للدماء. وفي مثل هذا اليوم يكسب ذلك المنكود ما يجود به ذوو الشفقة وأهل الإحسان من هؤلاء المستريضين.
ذهبت كذلك لكي أمتع نفسي بما ليس في بلادنا من مناظر تلك الربى وتلك الغابات، ثم اتخذت مكانا غير بعيد من الموسيقى وغير بعيد من الطرقات التي يمر بها الرائحون والغادون. فمن أم وبنيها، ومن زوج وزوجها، ومن غادة هيفاء تتأبط ذراع فتى مليح، وكثير من هؤلاء المستريضين يحملون أدوات يستخدمونها لطعامهم وشرابهم ولهوهم. وكأن هذه الطبيعة تسع في حيزها تلك المظاهر المختلفة التي يظهر الناس بها: فمن مظهر للبر إذ تجد أما رءوما تمتع صغارها بحاجاتهم من الرياضة واللعب، ومن شيخ وشيخة يشتركان معا بين أحضان الطبيعة في جميل الذكريات وفي تحية الوداع لحياتهما الآفلة، ومن شاب وشابة يشتركان في المتاع بسكرة الحب والنسيب، ومن فاجر وفاجرة يعتزلان ناحية تحت خمائل الأشجار، ويتفننان في أساليب الخلاعة والفجور.
Página desconocida