رشدي
قرأ الخطاب ذاهلا، وأعاد قراءة كثير من عباراته أكثر من مرة، وشعر عند الانتهاء من قراءته بدوار، وإنكار، وغرابة ولكنه لم يرفع عنه ناظريه حتى يستعيد رباطة جأشه، فيواجه أمه بشيء من السكينة يمكنه من الكذب عليها، واستطاع بفضل تفكيره في أمه، ووجودها على كثب منه، أن ينسى نفسه إلى حين فيمتلك أعصابه، ثم نظر إلى والديه فرآهما ينتظران كلمته بعينين معذبتين كمن ينتظر - غير معصوب العينين - إطلاق النار عليه، فتكلم قائلا متصنعا لهجة السخط والتبرم: رشدي يلح في العودة إلى البيت، فماذا دهاه؟!
فسألته الأم بلهفة: ولكنه بخير! - بخير والحمد الله إلا أنه كاره للمصحة! - أعده إلي يا أحمد، فلا فائدة ترجى من تركه في المصحة على رغمه.
فنهض أحمد وهو يقول: سأسافر اليوم إلى حلوان وآتي به.
وأعطى الخطاب إلى والده ومضى إلى حجرته وأمه في أثره.
وسافر إلى حلوان دون تردد أو تأخير. وظل طوال الطريق مشتت الفكر موزع الفؤاد مضطرب النفس، ولأول مرة - منذ أمد بعيد - يفكر في الموت كحقيقة ماثلة يطالع معالمها الرهيبة ويستشعر آثارها العميقة من الألم والخوف والقنوط، وتخيل المقبرة النائية التي ابتلعت شقيقه الأصغر، فخالها تنفض عن ثغرها تراب الأرض وتفغر فاها لابتلاع رشدي الحبيب الذي لا يدري كيف تكون الدنيا بدونه! وكان كلما قصرت المسافة بينه وبين المصحة اشتد انقباض صدره، وثقلت وطأة الخوف على قلبه، رباه! .. كيف يجده الآن؟! وما فعل السهاد به؟! وغادر القطار على عجل والشمس تميل نحو المغيب وأخذ العربة إلى المصحة، ثم صعد إلى الطابق الثالث لا يلوي إلى شيء، واشتدت ضربات قلبه وهو يقترب من الحجرة، ودخلها وقد تركز وعيه في الفراش أمامه، رأى رشدي كما وصف نفسه في رسالته جالسا في فراشه مسند الرأس إلى مخدة منكسرة على حجره! وازدرد ريقه وهتف به: رشدي!
فرفع الشاب رأسه عن المخدة بسرعة، وطالع أخاه الضامر الشاحب، وصدره المضطرب، وسرعان ما لاح السرور في عينيه، وقال بصوت متهدج: أجئت؟ .. خذني .. خذني.
فقال أحمد ليدخل الطمأنينة على نفسه: لهذا جئت يا رشدي.
ثم التفت إلى أنيس بشارة فحياه، فرد الشاب تحيته وقال بلهجة جدية دلت على تأثره: مسكين رشدي! إنه لا يذوق للنوم طعما، وكانت ليلته الماضية شديدة فظيعة! فالأوفق حقا أن يمضي هذا الأسبوع في البيت، على أن يعود إلى المصحة فيما بعد!
فأومأ أحمد برأسه موافقا وسأل الشاب: أتدري ما هي إجراءات الاستئذان لخروجه؟
Página desconocida