فقال المغرم بتعذيب نفسه: تعجل الشفاء رشدي قبل أن يستنجزك وعدك أهل الفتاة!
وأبدى الشاب المريض عزيمة صادقة، فانقطع عن كازينو غمرة، ولم يغادر البيت مساء إلا لإعطاء تلميذيه الدرس الخصوصي - وهو واجب يستعذبه قلبه ولا يعدل به لذة - ولأول مرة مذ فارق صباه حاول أن يأوي إلى فراشه في الساعة العاشرة، مما دعا أحمد إلى الإعجاب المطلق بصنع الحب الساحر، إلا أن الشاب لم يضح برحلة الصباح عن طريق الجبل على ما يقاسيه فيها من شدة البرد القارص؛ لأنها كانت متعة قلبه وزاد أحلامه، وصبر على تلك الحياة المستقيمة أياما دون أن يطرأ على حالته ما يبشر بالشفاء، بل نال السعال من حنجرته فاخشوشنت وبح أخيرا صوته، فتعذر عليه ترديد أغانيه المحبوبة، وكان عيد الأضحى قد أصبح على الأبواب، وأخذت له الأسرة أهبتها ككل عام، فجيء بكبش التضحية وشد من عنقه إلى نافذة المطبخ، حيث لم يجدوا له مكانا سواه في الشقة، ومضت الست دولت تصنع الرقاق. وقد تشكى أحمد - كعادته - ارتفاع ثمن الخراف، وقال إنه ربما تعذر عليهم ابتياع كبش في العام القادم، فهال أمه القول وقالت له ضاحكة: ابصق هذه النية وطهر فاك الشريف؟
وجاء العيد في الأيام الأوائل من يناير سنة 1942، واستقبلته الأسرة - والحي جميعا - بالبشر والفرح، وحفلت المائدة باللحوم أشكالا وألوانا، ومن عجب أن رشدي لم يخرج عن نظامه الجديد في العيد، والحق أن إعياءه لم يمكنه من إشباع رغباته، أما أحمد فأمضى عطلة العيد في قهوة الزهرة، ولكنه لم يذعن لإغراء المعلم نونو فخاب سعي الرجل لاستدراجه مرة أخرى إلى بيت عليات الفائزة، وهل يمكن أن ينسى ختام تلك الليلة الجهنمية؟ ثم كان صباح اليوم الرابع من أيام العيد، وفي ذاك الصباح حدث ما جعل أحمد يذكره على الدوام، وقد استيقظ في منتصف التاسعة ومضى إلى الحمام كعادته، فوجد رشدي مكبا على الحوض يسعل سعالا شديدا يضطرب له جسمه الهزيل؛ فاقترب منه حتى صار لصقه، ومد يده ليربت على منكبه فلاحت منه التفاتة إلى الحوض فرأى بقعة حمراء! .. فتصلبت يده وخفق فؤاده خفقة انخلع لها صدره وهتف بصوت متهدج: رباه!
ثم نظر نحو شقيقه في ارتياع، وكان كف عن السعال ولكنه لم يزل في غيبوبة منه، يعلو صدره وينخفض، ويتنفس بصعوبة، وقد احمرت عيناه، فتريث الرجل حتى استعاد الفتى أنفاسه، وقال بلهفة منزعجا وهو يشير إلى البقعة الحمراء: ما هذا يا رشدي؟!
فرفع إليه الفتى عينين كئيبتين وقال بصوته المبحوح: هذا دم! - رباه!
فتجلى الحزن في عيني الشاب، ثم أفلت منه زمام نفسه فاغرورقت عيناه، وقال بصوت لا يكاد يسمع: أصبت وانتهيت!
فقال أحمد وكأنه يتوسل إليه: لا تقل هذا:
فقال الشاب بقنوط: هي الحقيقة يا أخي!
وفتح أحمد الصنبور ليغسل الحوض. وتأبط ذراع الشاب، وسار به إلى حجرته - حجرة الشاب - ومضى إلى النافذة فأغلقها، وجلس رشدي على الفراش فأتى الآخر بكرسي وجلس أمامه، ثم سأله بعد أن ازدرد ريقه: ماذا تقول يا رشدي؟! صارحني بكل شيء.
فقال الشاب بهدوء: ذهبت أخيرا إلى طبيب فقال لي إن بالرئة اليسرى مبادئ سل!
Página desconocida