ولكنها حثت خطاها فهم باعتراض سبيلها، فقالت له بحدة مصطنعة: إليك عن سبيلي! .. وا خجلتاه لسلوك الجار! - هل يعيب الجار أن يتودد إلى جارته الحسناء! - أجل. - وإذا أجبره حسنها على أن يتودد إليها فمن الملوم؟ - لا تستدرجني إلى الكلام، وإياك أن تعترض سبيلي.
ولكنه اعترض سبيلها غير مبال تحذيرها، فتملكها الخوف واندفعت نحو الباب مارقة من تحت ذراعه، فلم يسعه اللحاق بها، ونزلت على عجل خافقة الفؤاد ومضت نحو شقة سيد عارف، لم تكن غضبى ولا مستاءة، بل كانت أبعد خلق الله عن الغضب أو الاستياء، وجلست في الشرفة تنتظر ربة البيت فلم تفارق مخيلتها صورة محياه الجميل، ولا غاب عن سمعها رجع صوته الحنون، وجعلت تستذكر أحاديث أترابها في المدرسة عن حيل الشبان ورسائل الغرام ونوادر الغزل، ثم تساءلت ترى هل تدلي بدلوها منذ الغد في حديث الحب الذي لا يمل؟ .. ولكن أي نوع من الشبان يكون؟! ونزل رشدي بعد قليل مبتسما مسرورا، ولم يكن قلبه قد استشعر عاطفة صادقة بعد، فكأنما كان يقوم بتمثيل دور محبوب، بيد أنه كان كذلك من أولئك الممثلين الصادقين الذين يندمجون بتمثيل أدوارهم اندماجا يوري القلب ويقدح شرره فإذا هم ضاحكون أو باكون، ثم انطلق إلى الكازينو بشهية متفتحة للسرور والشراب والطرب.
23
ومضت أيام العيد فلم تقع عينا أحمد عاكف عليها مرة أخرى، وحسب أنها في شغل بالعيد وملاهيه فدعا لها قلبه بالسرور ، وكان كل مطمعه أن تراه في البدلة الجديدة التي فصلها خاصة إكراما لها، فقال لنفسه: إن البدلة لا تبلى في أيام وسوف تراه يوما ما حتما وهو يرفل فيها، وشغل هو كذلك بعطلة العيد وإن كان أنفقها جميعا في قهوة الزهرة بين الصحاب، ما عدا سليمان بك عتة الذي سافر ليعيد في قريته، ومن عجب حقا ألا يكون قد ظفر بصديق منهم على دوام العشرة والصحبة، وذلك لأنه كان يتطلب في الصديق سجيتين لا تجتمعان: أن يدين له - هو - بالتفوق والأستاذية، وأن يكون مثقفا - ولو لحد ما - ليتمتع بصداقته، ولكنه غالبا ما يجد نفسه بين اثنين: واحد عامي - أو في حكم العوام - يعجب بشخصه ويؤمن بعقليته، وآخر مثقف لا يذعن لمشيئته ويجادله جدل المعتد بنفسه المتحدي غيره، ولعله أن يحب الأول كما يمقت الثاني، ولكن لا هذا ولا ذاك بالصديق المنشود. وقد أحب المعلم نونو، وكمال خليل، وسيد عارف، ومقت أحمد راشد، ولكنه ظل بغير صديق، أو كان شقيقه رشدي الصديق الوحيد في دنياه المحبوبة.
مضت إذن أيام العيد دون أن تقع عليها عيناه، ولكنه لم يكف لحظة عن التفكير فيها، ولا انقطع عن إدامة النظر فيما جد في حياته من أمور، ألم تحدث عاطفة، ويستيقظ قلب، ويبتسم أمل؟! ألم تحدث عاطفتان، ويستيقظ قلبان، ويبتسم أملان؟! لقد أحب بعد أن حرم من الحب زهاء ثلاثين عاما، وأحب بقلب آذن شبابه بوداع، فهو يستمسك بالحب كآخر أمل مرجى في سعادة الدنيا، وجاء الحب عفوا بعد أن أشفى منه على اليأس، ورجع فؤاده النغم القديم فتيا نديا عذبا كأنه بعث من جديد، فوجب أن يفكر في أمره، ويقبل على تدبير شأنه، ومضت أيام العيد وهو مشغول بالتفكير والتدبير، فهذي الحياة تمسح عن جبينها ما ألف من تقطيبها، وتجود له بفرصة سعيدة ليعاود تجريب حظه، فلن يحجم ولن يتردد، وأراد أن يكون أعظم صراحة مع نفسه فغمغم في وحدته: «الزواج!» أجل، ولكنه في الأربعين وهي دون العشرين، فهو في سن أبيها، ولكن ما وجه الإنكار في ذاك؟ ألم تعلن له بميلها إليه - وقد خفق فؤاده للذكرى - ألم يختره قلبها؟ .. وأما صديقه كمال خليل فيرجح أن يرحب بيده، وإن لم يخل في بادئ الأمر من دهشة، وتخيل أن القوم راحوا يتحرون عنه فعلموا أنه «في الأربعين، كاتب بمحفوظات الأشغال، درجة ثامنة - فهو من المنسيين في الحكومة كما أنه من المنسيين في الدنيا - مرتبه خمسة عشر جنيها!» ألا ينزعج كمال خليل الذي يحسب أنه من رؤساء الأقلام؟ .. ألا تقول الست توحيدة - أم نوال - إن عمره كبير ومرتبه صغير؟! .. وعض عند ذاك على شفتيه، وعاوده شعور الأسى واليأس: وأوشك أن يثور به الغضب، وأن يقول كما قال مرة في مثل هذه المناسبة: «إن الدنيا جميعها لا تساوي زنتها قذارة إذا سولت نفس لصاحبها أن يستهين بي!» ولكن توثبه لتجربة حظه لم يدعه يستسلم لجنون الغضب، فطرد عن فكره خواطر اليأس، واستعاد سروره ودواعي الأمل والسعادة من حياته الجديدة.
وانقضت أيام العيد الثلاثة وهو يفكر التفكير الذي يسبق العمل مباشرة، وجاء يوم الجمعة الأول بعد العيد ولم يحقق شيئا من أفكاره، بيد أنه رآها صباح ذاك اليوم لأول مرة، بعد مرة أول أيام العيد، وسر فؤاده المشوق. كان اليوم من أيام نوفمبر الأولى، والجو رقيق منعش تسري في تضاعيفه من آن لآن هبات نسيم بارد، والسماء تغشاها غلالة من سحاب ناصع البياض ينضح بنور الشمس المتوهج، ففتح النافذة - نافذة نوال - ورفع رأسه، وما يدري إلا وفتاته تطل عليه كالأمل النضير والحلم السعيد، وحياها بابتسامة وإيماءة، فردت تحيته مبتسمة، ولكم عشق ابتسامتها، ولبث يملأ عينيه من سمرتها الصافية، وخطر له وقتذاك أن يحاول تفهيمها بالإشارة - وعلى قدر المستطاع - أنه يوشك أن يحدث والدها بشأنهما، ولكنها سبقته فأنامت رأسها على راحتها كأنما تقول له إنها ترغب أن تنام، وأشارت على رأسها وقطبت ثم لوت شفتيها تعني أن رأسها موجع، ثم حنت له رأسها وتراجعت مولية، وأسف على فوات الفرصة، ولكن تصميمه تضاعف، وأراد أن يدخن سيجارة فوجد علبة السجائر فارغة ، فمضى إلى حجرة رشدي ليأخذ منه سيجارة، وكان الباب مواربا فدفعه بهدوء ودخل، ورأى شقيقه مرتفقا النافذة شاخصا إلى أعلى، مستغرقا حتى إنه بلغ نصف الحجرة قبل أن ينتبه الشاب لمجيئه، فاستطاع أن يرى من موقفه النافذة الأخرى التي يتطلع إليها أخوه، وأن يلمح حال توسطه الحجرة رأس نوال - دون غيرها - وهو يرتد بسرعة البرق! وانتبه رشدي إلى مجيء شقيقه - باختفاء الفتاة الذي هو بالفرار أشبه - فالتفت وراءه، ثم ابتسم للقادم بترحاب وبوغت أحمد مباغتة عنيفة منكرة كانت أعنف وقعا عليه من انفجار القنابل ليلة الغارة، فزلزلت صدره - الذي جاء به مثلجا مطمئنا - قلقلة جنونية صدعته كما يتصدع السحاب بشرارة البرق القوية الخاطفة، ولكن لم يغب عنه تحول الشاب إليه، فأغضى بصره - ببداهة الغريزة وسرعتها - ليخفي عينيه، وأهاب بقوته الكامنة ليحافظ على هدوء مظهره، وتكلف ابتسامة، ثم نظر إلى الشاب الذي أقبل نحوه مبتسما ابتسامته الحلوة البريئة وقال بهدوء: سيجارة من فضلك.
واستخرج رشدي علبة سجائره من جيب بيجامته وفتحها وقدمها لأخيه، فتناول الرجل سيجارة شاكرا، وحياه برفع يده إلى جبينه، ثم قفل راجعا.
24
ورد باب حجرته وهو لا يكاد يرى شيئا من الذهول، ورمى بالسيجارة إلى فراشه، ثم اقترب من النافذة ورفع رأسه فرأى الشرفة كما تركتها مفتوحة وخالية، ثم أطرق مقطبا وأغلق النافذة بشدة طقطق لها الزجاج، وعاد إلى الفراش وجلس على حافته مغمغما: «غاب عني أن هناك نافذة تطل مثل نافذتي على هذه الشرفة، حقا غاب عني ذلك!» وكأن دمه استحال نفطا يمد قلبه بألسنة من لهيب، ألم يرها وهي ترتد فزعة لدى ظهوره؟ فهل غير الشعور بالإثم أفزعها؟ أو ما الذي دعاها إلى النافذة بعد أن أوهمته أنها ذاهبة لتنام؟ فليس وراء ذلك كله سوى معنى خبيث يتخايل خلقه البشع خلف خداع الآمال الباطلة، ومن عجب أنه لم يمض على حضور شقيقه إلا عشرة أيام، ففي أيام معدودات تغير كل شيء - وشعر عند ذاك بصفعة - فكفر قلبه بهواه، وصارت ابتسامة الترحاب خدعة رياء، ترى كيف تحدث هذه الانقلابات؟ أتقع في يسر وهوادة كأنها لا تعرك ضحايا؟ أم أنها تلقى ما هو خليق بها من التردد والألم؟ أكانت تلعب بهما؟ أيمكن أن تتكشف تلك النظرة الساذجة عن مكر سيئ وخبث وعر؟! ولماذا إذا بادلته التحية منذ دقائق؟ أهو الحياء والحرج أو أنه المكر والحيطة؟
أما الشاب فلا يدري من الأمر شيئا، إنه بريء من دمه، ولعل أنه رآها فراقته فغازلها كعادته فاستمالها فهويته، بنظرة وإشارة نسيته، وهل خطره أكبر من ذلك؟! نسيت الكهل الأصلع الفاني، فلا يلومن إلا نفسه، ألم يكن له فيما اكتسب من معرفة بحظه وسوء ظنه بدنياه، وبالمرأة خاصة، ما يحرز به نفسه من غوائل الأمل وومضات السعادة الكواذب؟ ونهض قائما وقد اشتد شحوب وجهه ولاحت في عينيه نظرة حزن عميق ويأس سحيق، وجعل يذرع الحجرة جيئة وذهابا ما بين الفراش والمكتبة حتى عراه دوار فعاد إلى مجلسه من الفراش، وراح يتساءل: أيرضى أن يستبقا - هو وأخوه - في مضمار منافسة واحد؟ ونار كبرياؤه وشمخ بأنفه، محال أن يتنازل لمنافسة إنسان، فالمنافسة الحقة لا تثور إلا بين أكفاء! ومحال كذلك أن يطلع شقيقه على سره، فكبرياؤه تأبى عليه أن يستجدي السعادة أو يستوهب الحب، وخليق بمن كان مثله أن يترفع عن هذه الصغائر - الحب والفتاة والظافر بهما - فهو أكبر من هذا جميعه، ولكن ما بال الألم لا يرحم كبيرا؟! لماذا لا يعرف هذا الألم القتال قدره فيتوارى؟! كيف تلسع الغيرة قلبه بمثل شوكة العقرب؟ وإلام تئن كبده وتتوجع! الحقيقة أنه مد يده ليجلو عروسه فتكشف له قناعها الموشى عن جمجمة ميت! ورأى بعين خياله صورتهما المزدوجة، هو بشبابه الريان وهي بعينيها النجلاوين، فوجد ألما وإباء وعجرفة قاسية، ترى لماذا يحول رشدي دائما بينه وبين سعادته وما أحب إنسانا مثله قط؟ فهو الذي أجبره - قبل عشرين عاما - على التضحية بمستقبله ليقف حياته على تربيته، وها هو الآن يجني ثمرة سعادته ويدوس أمله المنشود بقدم غليظة! واستولى عليه الغضب وتقيحت نفسه بالسخط والحنق، وثار بركانه في عنف ودوي، ولكن الكراهية لم تجد سبيلا إلى نفسه، لم يكره أخاه لحظة واحدة، حتى وهو فريسة الثورة في عنفوانها، بيد أن حبه له أصيب بنوبة وقتية أفقدته وعيه، فأغمي عليه ولكنه لم يمت، بل لم يشعر نحوها - وهي الخليقة بالاتهام - بكراهية أو مقت، وإن بدا سخطه كأنه لا نهاية له، ثم خمدت ثورته بسرعة عجيبة تدعو للدهشة حقا، فولت أحاسيس الغضب والسخط والعجرفة، مخلفة وراءها حزنا عميقا لا يتزحزح ويأسا خانقا لا يريم وخيبة متغلغلة لا تؤذن برحيل، وحين عاودته ذكريات الأمس السعيدة، لم يتحسر عليها ولم يأسف، ولكنه شعر بهوان وخجل! وأنشأ يقول بصوت خافت حزين وكأنه يحدث غير نفسه: برح الخفاء، ولا مفر من الحقيقة، أنت رجل سيئ الحظ، بل هذا قول دون الواقع بكثير، فالحق أن الدهر نصبك هدفا لسهام الخيبة والإخفاق، ووكل بك قوة شيطانية فظيعة تلقف من سبيلك كل فرصة سانحة أو مصادفة سعيدة؛ إذ أنت تحسب أنه لم يعد بينك وبين الرجاء إلا كلمة تقال أو راحة تبسط، وما تكاد أن تمد حجرك لتلقي ثمرة دانية حتى ينقض عليها طائر الشؤم الكاسر فيلتقطها بمنقاره ويطير بها، وتوشك أن تصعد قمة هرم من المحاولات فيندك عاليه سافله ويلقي بك إلى غور سحيق. آفاقك تلتمع ببروق الآمال الكاذبة وموضعك من الأرض مظلم عابس، هل يوجد في الدنيا إنسان مبتلى بمثل عناد حظك العاثر! الناس يحثون الخطى باسمي الثغور ما بين ممتع بصحته، وهانئ بأسرته، وراض بمكانته، وسعيد بماله، فأين أنت من هؤلاء جميعا؟!
Página desconocida