وكان أحمد ثاني المستيقظين، فنهض نشيطا حبورا، وحلق ذقنه بعناية، وارتدى جلبابا جديدا وطاقية جديدة، ثم وافته أمه إلى حجرته وقد مشطت شعرها وأخذت زينتها، فقبل يدها، وقبل خدها، وقبلت خديه ، ودعت المرأة للأسرة بالعمر المديد والسعادة والرفاهية، ومضيا معا إلى الصالة وجلسا جنبا إلى جنب يتحدثان وينتظران بقية الأسرة، من انطلق يبتغي مرضاة الله، ومن يغط في نومه غطيطا، وعاد الأب بعد مشرق الشمس بقليل، فدخل عليهما يرفل في عباءته الفضفاضة، وما يزال يبسمل ويحوقل، فمثلا بين يديه، ولثمت الزوجة يده، وفعل أحمد مثلها، فهنأهما الرجل بالعيد، وجلسوا جميعا وهو يقول: كل عام وأنتم بخير، ربنا يجعله عيدا سعيدا لنا وللمسلمين كافة.
ورمى ببصره الذابل إلى آخر حجرة في الشقة وقال كالمتهكم: هل استيقظ الغلام أو أنه لم ينم بعد؟!
فبادرت المرأة للدفاع - كعادتها - قائلة: تأخر الغلام أمس لأنه لقي إخوانه بعد فراق عام، ولأنه عاد بطبيعة الحال ماشيا على قدميه.
على أنه لم يطل بهم الانتظار، فانفتح باب الحجرة الأخيرة ومرق منه الشاب إلى الحمام الذي يقابله، وأقبل نحوهم - قبل مضي ربع ساعة - يخطر في بيجامته وقد سرح شعره الأسود، وتعطر بشذا البنفسج، وبدا وجهه مائلا للشحوب إلا أنه يقطر منه حسن الشباب ورواؤه، وتألق ثغره بابتسامة حلوة لا يضيء بمثلها في الأسرة إلا ثغر والدته الطروب، وتجاهل الشاب ما ينطوي عليه والده من الانتقاد فاقترب منه، وانحنى على يده، وقبلها باحترام، وانثنى إلى والدته فقبل يدها وخدها، ثم لثم جبين شقيقه، وبسطت الأم راحتها وقالت ضاحكة: عيديتي يا سادة وكل عام وأنتم بخير!
وقد تعود كل منهم أن يعطيها نصف جنيه عيدية، فكانت تفرح بعيديتها فرح الأطفال، بل تنفقها كما ينفقها الأطفال، فتبتاع ما تشتهيه نفسها من الشيكولاتة والملبس.
ثم أحضرت فطار العيد - كعكا وحليبا - فأقبلوا عليه في غبطة. والصائم يشعر عادة بغرابة وإنكار وحذر وهو يتناول أول لقمة صباح العيد، ثم يصيب من طعامه جذلا مسرورا، فليس أجمل وقعا في النفس من لحظة سعيدة تفصل بين واجب قامت بحقه وتصبرت على أدائه وبين تمتعها بلذة الجزاء وراحة الضمير. وتناولوا الكعك بأناملهم، وقضموه بلذة حتى رسم دوائر من السكر حول أفواههم، ثم أساغوه بالحليب، وما زالوا حتى شبعوا ، وقالت الأم بلهجة أسيفة، تكلفتها لتستوهبهم الثناء والإطراء: يا حسرتاه على أيام السلم حين السمن سمن والدقيق دقيق والكعك كعك!
وأدرك رشدي ما ترمي إليه والدته فقال بلباقته المعهودة: كعكنا لذيذ فلا يدع لنا حاجة للتحسر على سواه!
وتفرقوا في الحجرات، وعاد أحمد عاكف إلى حجرته، وكان قلب الكهل يخفق بروح الشباب النشوان، بل كان كذلك منذ كاشفته بتحية الوداد ليلة القدر فلم تغب عن مخيلته قط صورة شبحها الرقيق وهي تجود بإيماءة السلام، ولا خمدت بعد ذلك العواطف التي بعثتها تلك الإيماءة الساحرة فرح الكهل، واستخفه الطرب، وهيأ له مرحه وطربه أنه سيسترد شبابه الريان فيخضر غصنه الباهت ويجري فيه ماء الحياة الدافق، ويسود فؤاده، وتغشى صلعته لمة فينانة، وتغزر أهداب عينيه فتكحل أشفارهما المشربة بالاحمرار بيد أنه لم تقع عليها عيناه منذ تلك اللحظة السعيدة، وتغيبت عن موعدها المألوف المحبوب، فلم يشك في أنه الخجل الذي يتشجع بالظلمة ويفر من ضوء النهار، فدرت أضلعه حنانا وعطفا - ومن أدرى به منه بأهوال الخجل - وسر سرورا كبيرا إذ وجد أخيرا من يستتر عنه - هو - حياء! ولكن هذا صباح العيد وقلبه يحدثه بأنها لن تبخل عليه بنظرة تسر الروح وتحيي الأمل، وها هو يرفع رأسه فيرى الشرفة مفتوحة على مصراعيها والشمس تغمرها فيشي لألاؤها بالوجه الذي أطل منها، ولبث ينتظر مجيلا بصره في الحي الفرحان بالعيد، وقد بثت روح العيد في كل شيء فتراها في الألوان وتسمعها في الجو وتشمها مع الهواء، وغدا ذاك التيه - الذي تحده العمارات - يرقص فرحا ويغني طربا ويبعث بحرارة اللذات، جري الأطفال هنا وهناك بثيابهم المزركشة ذوات الألوان الفاقعة، وتطايرت وراءها الضفائر والشرائط، وهتفت الزمارات، وفرقعت قنابل السلام، ولاكت الأفواه الحلوى والنعناع، وملأت الأناشيد والأغاني الأسماع، واكتظت المقاهي بأهل المدن والريف، فازدهت الأرض عيدا والسماء، وتصفحت عيناه المناظر والوجود بعقل غائب، حتى جوزي على صبره أجمل الجزاء فرأى فتاته تبرز من باب الشرفة في أبهى حلل، فصعد إلى وجهها الأسمر الجميل ناظريه، وتشجع على غير مألوفه فلم يطرق، وابتسم وفؤاده يغلي من شدة الخفقان، وأحنى رأسه انحناءة خفيفة، وكانت ترنو إليه بعينيها النجلاوين، فابتسمت ابتسامة حلوة ردا على تحيته، ولم تحول عينيها عن عينيه فتولاه الاضطراب والحياء وأوشك أن يفقد شجاعته، ولكنها ابتسمت إليه مرة أخرى وتراجعت في خفة حتى اختفت عن ناظريه، فتنهد بارتياح وسرور، ومناه الأمل أن يراها مرة أخرى فيفوز بابتسامة ثالثة ولكن خادما جاء متعجلا وأغلق باب الشرفة، فشعر بخيبة وأسف، ثم ابتعد عن النافذة، وكانت الساعة تقترب من التاسعة فذكر أنه على موعد مع الصحاب في الزهرة - صار أخيرا من أصحاب المواعيد في القهوات - فارتدى ملابسه الجديدة - البدلة والطربوش والحذاء والقميص - ونظر إلى صورته في المرآة فأعجبته جدته وأناقته، وذكر أيام شبابه الغابر - قبل أن يعبس له الزمان - حين عرف دهرا بالأناقة! وغادر البيت جذلا طروبا، فسار متمهلا ثملا بخمر الأمل والأحلام، يسائل نفسه في حيرة الفرحان: «وماذا بعد الابتسام؟ ... ماذا بعد يا دهر؟!»
20
ورجع رشدي إلى حجرته، فأشعل سيجارة وراح يدخنها وراء النافذة مصوبا بصره نحو النافذة المرموقة، متوقعا بين آن وآخر أن يلمح جارته الحسناء، وصدقه الأمل فلاحت الفتاة في النافذة بفستانها الجديد وعلى كتفيها معطف رمادي، إلا أنها تراجعت في غير إبطاء كأنما تفر من نظرته الثاقبة. ولمح الشاب المعطف فخطر له أنها متهيئة للخروج، فدلف إلى المشجب بغير تردد وأخذ في ارتداء ملابسه، وغادر البيت بعد دقائق معدودات وساءل نفسه أين يحسن أن ينتظر؟ ... وذكر لتوه الممر الضيق الموصل بالسكة الجديدة، وسار نحوه مسرعا، ثم توقف، عند موضع اتصاله بالطريق، على الطوار، وكان الشارع يضطرب بتيارات السابلة وقد انحدرت من الدراسة العربات الكارو غاصة بالغلمان والبنات يغنون ويرقصون ويطبلون، فلبث في مكانه عينا على الشارع المائج تنظر في ابتسام وعينا على الممر تترقب في رجاء، وكان خبيرا بأمثال ذاك الموقف فلم يساوره الجزع، بيد أن الحال لم يقتضه صبرا طويلا فما عتم أن رأى فتاته تبدو في أول الممر يسير لصقها غلام عظيم الشبه بها، فتشاغل عن النظر إليها بإشعال سيجارة وهو لا يشك في أنها تراه، ولكن هل أدركت يا ترى أنه ينتظرها؟ ثم تبعها عن بعد قريب في طريقها إلى الأزهر، فرآها جميلة لأول مرة، وبدت في السادسة عشرة على أكبر تقدير، متوسطة القوام رشيقة اللفتات، بيد أن وجهها أجمل ما فيها حقا، وأجمل ما في وجهها عيناها النجلاوان، ولم يستطع أن ينعم فيها النظر لأنها بلغت المحطة مسرعة وصعدت إلى حجرة السيدات ومعها أخوها - على الأرجح - فاستقل الترام وراء الحجرة مباشرة ليتمكن من رصد نزولها، وتحرك الترام وهو لا يدري أين تنتهي به المطاردة! وجعل يحدث نفسه: شابة صغيرة، وجهها 7,5 على 10 وجسمها 6,5 على 10، سنعلم بعد حين أيسيرة هي أم عسيرة، وهل تلهو بالحب أم تحلم بخاتم الخطوبة؟ سنعلم كل شيء في حينه، ولكنها إذا كانت من الحالمات بالخاتم فسيغدو الأمر شاقا وربما مضجرا أيضا، على أنه ينبغي أن نركز اهتمامنا في شيء واحد قبل أي شيء، وهو أن نستدرجها إلى الكلام ولنر ما يكون! ووصل الترام إلى ميدان الملكة فريدة فغادروه جميعا - هي وأخوها أولا ثم هو - ولاحت منها التفاتة على الطوار فرأته على بعد أذرع منها يديم إليها نظراته الجسورة الثاقبة، فحولت عنه وجهها، وتظاهرت بالانهماك في محادثة الغلام، ولم يخالجه شك هذه المرة في أنها أدركت أنه يتابعها عن عمد، ثم رآهما يستقلان أول ترام قادم - وكان ترام الجيزة - فصعد إليه بغير تردد متسائلا: «ترى هل يقصدان إلى قريب في الجيزة ليعيدا عليه؟!» وقرر في تلك اللحظة أن يهبها اليوم جميعا عن طيب خاطر ولكنهما غادرا المركبة عند محطة عماد الدين، فغادرها مسرورا وقد أيقن أنهما ذاهبان إلى سينما، وعبروا الطريق إلى شارع عماد الدين، الاثنان أولا وهو في أثرهما متحفزا لما يشبه الابتسام، أو لتضمين نظرته ما يريد من المعاني إذا هي التفتت وراءها، ولكنها مضت لا تلوي على شيء ممسكة بيد الغلام الذي هرول ليسير في حذائها، وجعل لا يحول عينيه عن ظهرها وساقيها، ويتبين حال مشيتها ومواقع قدميها ، فوجد من السرور برؤيتها من وراء مثلما وجد لرؤيتها من أمام، وأعطى صورتها الخلفية جملة 8 على 10، وتنهد عند ذاك متذكرا وجوها أبى الحسن أن تنسى وقال لنفسه: «حقا فشا الحسن في مصر هذا الزمان الحديث.» ولما بلغوا ريتز التفتت وراءها فرأت عينيه محدقتين بها فاستردت عينيها بسرعة - وفوجئ فلم يسعه أن يضمن نظرته شيئا - وحثت خطاها في اتجاه استوديو مصر، وأسف على ما فاته من حديث العيون ولكنه سر بالسينما التي اختارتها فتاته - لأنها كانت تعرض فيلم دنانير - وأدرك أن هذه المطاردة أتاحت له لذتين عزيزتين، وأراد أن يجلس جنبها في الصالة فعمل على أن يقف وراءها مباشرة في الصف الممتد أمام شباك التذاكر ليتمكن من اختيار مقعد لصق مقعدها، بينا تنحى الغلام جانبا ينتظر متفرجا على الصور، وصار منها على قيد خطوة، فخال أنفاسه تمس ضفيرتها، فاستثار قربها من صدره إحساسا شبيها بما تستثيره رائحة زكية عميقة، وتتبع أنملتها وهي تختار مقعدين لها ولشقيقها على رسم الصالة، فرأى إلى يمين الكرسيين مقعدا شاغرا وإلى يسارهما ثلاثة، وتساءل ترى إلى أية ناحية تجلس الفتاة؟ .. وأجرى في سره على الناحيتين القرعة المعروفة: «حطة يا بطة يا ذقن القطة عمي حسن ... إلخ». فرست «حداه» على المقعد الأيمن فاختاره فيما يشبه الاطمئنان، وتحول عن الشباك وأجال بصره فيما حوله فلم يجد للفتاة ولا لشقيقها أثرا، بيد أنه لم ينزعج فالتذكرة في يده، وهي خليقة بأن توصله إليها مهما ضل عنها، ولا يدري كيف ذكره هذا - قوة التذكرة - بعقد الزواج وقداسته وسحره فاهتز صدره الرقيق، ودخل السينما منفعلا، ومضى به الدليل إلى مقعده وهو يرجو أن تكون «حداه» قد صدقته الهداية، ولكنه رأى الغلام يجلس بينه وبين أخته؟ ورأته الفتاة قادما فطرفت عيناها ارتباكا وتجنبت أن تحولهما إلى جهته! وجلس الشاب في ثقة وسرور، واسترق إليها النظر مرة ومرة، فوجدها في المرتين شاخصة إلى ما أمامها، واستشف من تورد خدها وارتباك هيئتها ما يخامرها من حياء واضطراب، فأشفق عليها، ورأى عن حكمة ألا يشق عليها ، فجعل يتسلى بإجالة بصره بين البناوير والألواح والمقاعد مزجيا تحيات المودة إلى الصدور والنحور والثغور والمعاصم، ولم يطل به المطال فدق الجرس ثم أطفئت الأنوار، وانحسرت الشاشة عن دنيا الأحلام، وطاب له المجلس في الظلمة على كثب من الفتاة التي أضمر لها غزلا - وإن لم يخفق لها فؤاده بعاطفة بعد - حتى غرد الصوت الإلهي بأغنية النبع «طاب النسيم العليل» فغفل عن الوجود، وكان يحب الغناء حبا خيل إليه يوما أنه خلق ليكون موسيقيا، فتسلسل الفيلم وهو هائم في نغمة روحية عالية، وانتهى العرض وأضيئت الأنوار ونهض النظارة، والتفت رشدي نحو الفتاة فرآها واقفة مغمضة العينين تفاديا لتأثير النور الباهر بعد طول الاستسلام للظلمة، فانتظر حتى فتحتهما على نظرته العارمة! وعني خارج السينما بملاحظة أصابع يديها، فعلم أنها ليست مخطوبة، وابتسم لذلك ابتسامة ارتياح، ثم تعقبها في العودة بنفس العناد الذي تعقبها به في الذهاب، إلا أنه تثاقل عن متابعتها في الأزهر كيلا يشي بسره لأحد من أهل حيه الجديد. وعاد إلى البيت فوجد الأسرة في انتظاره للغداء، وما عتمت أن دعتهم أمه قائلة بلهجتها المرحلة: هلموا إلى طاجن العيد!
Página desconocida