فقال أحمد وهو يودعه: إن لم يكن هذا المساء، فمساء الغد إن شاء الله.
وسلم عليه شاكرا، ثم مضى إلى ما كان بسبيله من اكتشاف أنحاء الحي الجديد.
6
وعند مساء اليوم الثاني غادر العمارة ووجهته قهوة الزهرة، فوجدها عند مدخل شارع محمد علي الكبير، وهو السابق لشارع إبراهيم باشا، وكانت في حجم الدكان ذات مدخلين أحدهما على شارع محمد علي والثاني على الممر الطويل الذي يؤدي إلى السكة الجديدة، وقد وجد في الحي من أمثال هذه القهوة عشرات حتى قدر قهوات الحي بمعدل قهوة لكل عشرة من السكان، وأقبل على القهوة متمهلا مترددا لأنه لم يتعود ارتياد المقاهي ولا ألف جوها، وما كاد يعبر بابها حتى رأى المعلم نونو يتوسط جماعة من الأفندية بينهم واحد من أهل البلد، ورآه المعلم فنهض قائما مبتسما وقال بصوته الجهوري الخشن: أهلا وسهلا تفضل يا أحمد أفندي.
فاقترب منه بقامته الطويلة النحيفة تلوح على شفتيه ابتسامة ارتباك وحياء، مادا يده بالسلام، فتلقاها براحته الغليظة، ثم التفت إلى الجماعة قائلا: جارنا الجديد أحمد أفندي عاكف الموظف بوزارة الأشغال.
فنهض الرجال نهضة واحدة في لطف واحترام زادا من ارتباكه وحيائه، ومضى يسلم عليهم واحدا فواحدا والمعلم يقدمهم قائلا: سليمان بك عتة مفتش بالتعليم الأولي، سيد أفندي عارف بالمساحة، كمال أفندي خليل بالمساحة أيضا، الأستاذ أحمد راشد المحامي، المعلم عباس شفة من الأعيان.
وأوسعوا له مكانا بينهم ورحبوا به أيما ترحيب، فأخذ يأنس بهم وينفض عن نفسه الارتباك والحياء، وما لبث أن ساوره شعور سعيد بالعزة والاستعلاء أحسن إخفاءه. بابتسامة حلوة ونظرة حيية.
لم يخامره شك قط في تفوقه على هؤلاء الناس من جميع الاعتبارات والوجوه، فهو من أهل السكاكيني وهم من أبناء الدراسة أو الجمالية! وهو المفكر والعقل الكامل وهم لا شيء من هذا جميعه، بل خال أن وجوده بينهم تعطف جميل وتواضع محبوب، بيد أنه تساءل متحيرا ترى كيف السبيل إلى تفهيم هذه الجماعة حقيقة قدره وإطلاعهم على مزاياه العقلية والثقافية؟ .. كيف يقنعهم بعظمته ويدعوهم إلى احترامه؟ .. لا شك أن ذلك آت لا ريب فيه إذا اتصلت المودة وتكرر اللقاء، فلا عليه من تأخيره جلسة أو اثنتين! وتقلب بصره بين الوجوه الجديدة يعاينها باهتمام، فهذا سليمان عتة المفتش رجل في الخمسين أو يزيد، قبيح الوجه لحد الازدراء، قميء ذو احديداب، يذكرك وجهه بالقرد في انحدار جبهته وبروز وجنتيه واستدارة عينيه وصغرهما وكبر فكيه وفطس أنفه، إلا أنه حرم من خفة القرد ونشاطه، فبدا وجهه ثقيلا جامدا متجهما كأنه سيؤخذ بجريرة قبحه، أما أجمل ما فيه فمسبحة قهرمانية لعبت أنامل يمناه بحباتها، ومن عجب أن صورته على قبحها لم تهج مقته، ولكنها استثارت هزءه وسخريته، والمدعو سيد عارف كهل في مثل سنه على وجه التقريب، صغير الحجم رقيق الأعضاء، لبشرة وجهه نعومة وفي نظرة عينيه براءة، أما كمال خليل فرجل تلوح في عينيه الرزانة، كبير العناية بهندامه وأناقته معتدل القامة يميل للبدانة، وكان أحفل القوم استقبالا للجار الجديد، ثم تحول إلى أحمد راشد باهتمام خاص، فوجده شابا في ريعان الشباب، مستدير الوجه ممتلئه كبير الرأس تكاد تخفى صفحة وجهه نظارة سوداء عميقة السواد، أثار هذا الشاب اهتمامه لأنه محام، والمحامي رجل متعلم، والمحاماة مهنة طمع فيها أول عهده بالآمال وعجز عنها وإن لم يقر بعجزه قط، فما يزال يحقد على المحامي حقده على الأديب والعالم، وقد اعتاد أن يشعر نحو الواحد منهم كما يشعر الرجل نحو آخر تزوج من فتاة يحبها، فوجد فيه عدوا وتوثب للانقضاض عليه، ولم يبق من الجماعة إلا المعلم عباس شفة، وهو شاب ذو سحنة زنجية توحي ملامحه الغليظة الدميمة بالدناءة والوضاعة، وقد ارتدى جلبابا فضفاضا وشبشبا وترك رأسه بلا غطاء فانتفش شعره المفلفل وزاده دمامة وقبحا وبدا شيئا حقيرا لا ينقصه سوى لباس السجن! واحتلت الجماعة على صغرها أكثر من ثلث القهوة، وجلس القهوجي إلى صندوق الماركات على كثب منها وكأنه - لاشتراكه في أحاديثها - واحد منها! وبينما أقبل المعلم نونو وكمال خليل أفندي على أحمد عاكف أيما إقبال ثابر سليمان عتة على جموده وتجهمه كأنما نسيه نسيانا تاما، أما الأستاذ أحمد راشد فجعل ينصت إلى حديث يذيعه الراديو ...
ووجه كمال خليل الخطاب إلى عاكف قائلا: علمنا إن حضرتك آت من السكاكيني؟
فحنى أحمد رأسه قائلا: أجل يا أستاذ.
Página desconocida