من أين له أن يتخيل سعادته العجيبة؟ هو أو سواه من البشر؟ إنها سعادة غريبة فريدة؛ كأنها سر قد خص به وحده. وفي بهو الاجتماعات بالجريدة، رأى منافسه الأول في هذه الدنيا جالسا يتصفح مجلة، الرجل سمع وقع قدميه، ولكنه لم يرفع عينيه عن المجلة، لا شك أنه لمحه بطريقة ما؛ ولذلك فهو يتجاهله محافظة على راحة باله. إن الخلاف يحتدم بينهما في الاجتماعات الدورية حتى يتطاير الشرر، ويتبادلا أقسى الكلمات فلا تبقى إلا خطوة واحدة على التشابك. ومنذ أسبوع نجح منافسه في انتخابات النقابة وسقط هو، باء بطعنة حادة سامة، واسودت الدنيا في عينيه، ها هو يقترب من مجلسه، فلا يستفزه منظره، ولا تعكر ذكريات النضال صفوه. إنه يقترب بقلب خلي صاف، ثملا بسعادته العجيبة، طافح النظرة بالتسامح والغفران، كأنما يقبل على إنسان آخر لم تقم بينهما عداوة قط، أو لعله يعد بصداقة جديدة. ولم يجد حرجا البتة وهو يحييه قائلا: صباح سعيد.
رفع الرجل عينيه في دهشة، صمت لحظات قبل أن يفيق من دهشته، ثم رد تحيته بإيجاز، وكأنما لا يصدق أذنيه وعينيه. جلس على مقربة منه، وهو يقول: الجو بديع اليوم!
فقال الآخر بتحفظ: فعلا. - جو يقذف بالسعادة في القلوب.
تفحصه بإمعان وحذر، ثم تمتم: يسرني أنك سعيد.
فقال ضاحكا: فوق ما يتصور العقل.
فقال الرجل بلهجة مترددة بعض الشيء: أرجو ألا أعكر صفوك عند اجتماع مجلس الإدارة. - كلا البتة، رأيي معروف، ولكن لا بأس من أن يأخذ الأعضاء برأيك، لن يفسد ذلك علي سعادتي!
قال الرجل باسما: لقد تغيرت كثيرا ما بين يوم وليلة! - الحق أني سعيد، فوق ما يتصور العقل.
سأله وهو يتفرس في وجهه بعناية: أراهن أن نجلك العزيز قد عدل عن فكرة الإقامة في كندا!
ضحك عاليا، وقال: أبدا، أبدا يا عزيزي، ما زال عند رأيه. - ولكن كان ذلك مصدر حزنك الأول. - أجل، طالما رجوته أن يعود رحمة بوحدتي وخدمة لوطنه! ولكنه أخبرني بأنه سيفتح مكتبا هندسيا مع شريك كندي، بل ودعاني إلى اللحاق به، فليعش حيث يطيب له المقام، وها أنا - كما ترى - سعيد، سعيد فوق ما يتصور العقل.
لم تخل نظرة الآخر من ارتياب، ولكنه قال: شجاعة نادرة المثال! - لا أدري ما هي، ولكني سعيد بكل معنى الكلمة.
Página desconocida