أوسع المارة للموكب، واشرأبت إليه الأعناق من الحوانيت والمشربيات، وتطلعوا إلى القائد الجديد، ثم شاع الاضطراب والخوف، وقال صاحبه محذرا: سيظنون أننا نقصدهم بسوء!
قلب شرشارة عينيه في الوجوه الشاحبة، وقال بصوت مسموع: يا رجال، لكم منا السلام.
انفرجت الأسارير، وارتفعت الأصوات بالتحيات، وإذا به يقول مخاطبا القوم، وهو يلحظ صاحبه بنظرة ذات معنى: نحن قاصدون شرداحة!
ولوح بعصاه المخيفة وهو يتقدم في طريقه. ما زالوا يتطلعون إليك باستغراب، كأنك لم تولد في هذا الحي، في صميم شرداحة، ولكن لا ذكر يبقى إلا للقتلة والمجرمين. شاب في العشرين، عامل في السرجة، هوايته لعب البلي تحت شجرة التوت، يتيم، حتى مرقده لا يجده إلا في السرجة صدقة من عم زهرة صاحبها، وأول مرة حمل الزيت الحار إلى بيت لهلوبة، صفعه هذا على قفاه، تلك كانت تحيته. وزينب ما كان أجملها! لولا جبار شرداحة لبقيت زوجتك منذ عشرين عاما. كان بوسعه أن يطلب يدها من قبل أن تطلبها أنت، ولكنها لم تحل في عينيه إلا ليلة الزفة، وتحطمت الكلوبات، وفر المطرب، وتكسرت آلات الطرب، وخطفت أنت كأنك وعاء أو قطعة من أثاث. لم تكن ضعيفا ولا جبانا، ولكن المقاومة كانت فوق طاقتك، ورمي بك تحت قدميه، وأحدقت بك عشرات الأقدام.
وضحك ضحكة كريهة، وقال متهكما: أهلا بعريس الزيت الحار!
تمزق الجلباب الجديد، وفقدت اللاثة، وسرقت بقية تحويشة العمر، وقلت: أنا من شرداحة يا معلم، كلنا رجالك وفي حماك.
فصفعه على قفاه معلنا عطفه، وخاطب رجاله قائلا في سخرية: أي معاملة يا أنذال؟! - أنا خدامك يا معلم، ولكن دعني أذهب. - العروس في انتظارك؟ - نعم يا سيد الحي، وأريد نقودي، أما الجلباب فالعوض على الله.
قبض على قصتك وجذبك منها، وقال بلهجة جديدة جادة ومرعبة: شرشارة! - أمرك يا معلم؟ - طلق! - ماذا؟ - أقول لك طلق، طلق عروسك، الآن. - لكن ... - هي جميلة، ولكن الحياة أجمل! - كتبت كتابها العصر. - وتكتب طلاقها في الليل، وخير البر عاجله!
ندت تأوهات يائسة، وركله ركلة قاسية، وفي ثوان جرده من ثيابه الممزقة. انطرح أرضا على أثر ضربة في الرقبة، وانهال عليه بخيزرانة حتى أغمي عليه، وغرز وجهه في نقرة مليئة ببول فرس، وعاد يقول: طلق!
بكى من الألم والقهر والذل، ولكنه لم يعترض بكلمة، وقال الآخر بلهجة عطف ساخرة: لن يطالبك أحد بمؤخر الصداق.
Página desconocida