يروى عن امرأة عربية عراقية أنها كانت تشجع أبناءها السبعة في إبان الثورة العراقية في سنة 1920، وكانت كلما سقط أحد أبنائها في حومة الشرف تنشد قائلة: «يا موت، اطحن وأنا أهلك.» أي: يا رحى الموت اطحني الرجال وأنا أقدم إليك أبنائي!
المنقبة الثانية: السياسة
كان مجاعة بن مرارة من رؤساء بني حنيفة، وقد وفد على الرسول وأسلم فأقطعه أرضا، فلما ثار مسيلمة ببني حنيفة وادعى النبوة كان مجاعة معه، ويلوح لنا أنه كان يداري مسيلمة من جهة ويراقب حركات جيش خالد من جهة أخرى، فلما وثق بتقدم جيش خالد نحو اليمامة استفاد من الشغب المثار على مسيلمة، فخرج مع بعض رجاله من اليمامة طالبا الثأر من بني عامر وبني تميم، ولعل طلب الثأر كان حجة لخروجه من اليمامة قبل وصول جيش المسلمين إليها. ولما باغتته طليعة المسلمين في ثنية اليمامة استحياه خالد لعلمه أنه ينفعه في قتاله في اليمامة وحبسه عنده كالرهينة وتركه في فسطاط قيد مراقبة زوجه أم تميم. فلما تغلب الحنفيون على المسلمين وأزاحوهم عن المعسكر دخلوا الفسطاط وهموا بقتل أم تميم فمنعهم مجاعة من ذلك صارخا في وجههم: «مه! أنا جار لها فنعمت الحرة! عليكم بالرجال.»
وفي رواية أن مجاعة عاهد أم تميم على أن يساعدها إذا انتصر الحنفيون على المسلمين، وعلى أن تساعده هي بدورها إذا انتصر المسلمون على أهله، ولما انتهت المعركة عرض مجاعة الخدمة على خالد وطلب إليه أن يتوسط في عقد الصلح، فقبل خالد ذلك وأوفده إلى بني حنيفة حاملا شروط الصلح، وكان مجاعة قد علم بأن المسلمين كابدوا خسائر فادحة، وأن الحرب أنهكت قواهم؛ لأنه تفقد مع خالد ميدان المعركة وأطلعه على قتلى الحنفيين، وهو الذي دلهم على جثة المحكم بن الطفيل وجثة مسيلمة.
ولا شك أنه تأكد شدة مصاب المسلمين، فلما ذهب بمهمته تيقن شدة الشروط التي فرضها خالد على بني قومه، فأراد أن يخدمهم خدمة يخلص بها قومه من هذه الشروط القاسية ويمهد السبيل لاستلانة جانب خالد، وفي مثل هذا الموقف دبر حيلة أثبت بها دهاءه، وكانت الحيلة التي دبرها - كما يرويها الرواة - تتلخص فيما يلي: «دخل مجاعة الحصون وليس فيها إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ورجال ضعفاء، فظاهر الحديد على النساء؛ أي ألبسهن الدروع وسلحهن وأمرهن أن ينشرن شعورهن ويشرفن على رءوس الحصون إلى أن يرجع إليهن.» وبذلك أراد أن يظهر لخالد أن القوم لا يزالون في حصونهم متأهبين للدفاع لكي يحمله على تخفيف الشروط. فلما عاد قال لخالد: «إن القوم قد أبوا أن يخبروا ما صالحتك عليه، ولكن إن شئت صنعت شيئا فعرضت على القوم.» يريد بذلك أن يخفف خالد من شروط الصلح، وحدق المسلمون من بعيد إلى الحصون فرأوا عليها الناس ظانين أن بني حنيفة محتلوها، وأنهم عازمون على الدفاع.
ولقي مجاعة صعوبة في حمل المخالفين من بني حنيفة على قبول شروط الصلح، وكان سلمة بن عمير يقول لبني حنيفة: «قاتلوا عن أحسابكم ولا تصالحوا على شيء.» أما مجاعة فيقول لهم: «يا بني حنيفة، أطيعوني واعصوا سلمة فإنه رجل مشئوم قبل أن يصيبكم شرحبيل بن مسيلمة، قبل أن تستردف النساء غير رضيات وينكحن غير حظيات.»
والرواية تقول: إن بني حنيفة أطاعوا مجاعة وعصوا سلمة.
وكان من أمر حيلته أن أقنع خالدا بأن يخفف شروط الصلح.
ففرض الربع من السبي والنصف من الذهب والفضة والسلاح والخيل بعدما كان قد طلب أن يعطوه كل ذلك.
فلما فرغ من الصلح، وفتحت الحصون أبوابها إذا هو لم يجد فيها إلا النساء والصبيان، فقال خالد لمجاعة: «ويحك خدعتني!» فقال مجاعة: «قومي، ولم أستطع إلا ما صنعت.»
Página desconocida