وخرج، واشتعل بها الجنون، أهذا يمكن؟ أهذا معقول؟ لم تكن متهيئة للخروج، ولكنها لم تهتم، وخرجت إلى الشارع، وركبت سيارتها، لا تدري أين تذهب، الوقت مساء، وظلام الليل دامس، والنور في الشوارع ينسكب في عينيها قطعا من السواد، والناس قطعان من الغنم أو دمى في سيرك، كل الناس دمى، كل الناس تحركهم أصابع أخرى غير عقولهم، منهم من تحركه أصابع الرغبة في الغنى، أو الرغبة في الجنس الآخر، أو الرغبة في السيطرة، أين دري الآن؟ لا يمكن أن يبقى في العيادة حتى الآن.
أنا لا أريد إلا أن أهيئ الخير لابني وبنتي وزوجي، أنا لم أصنع شيئا إلا رغبة الخير لهم، وصنع هذا الخير بكل ما أملك من قوة ومن مال، لماذا ينفر مني أسامة؟ هو وحده الذي ينفر مني، أما فريدة وحمدي فإنهما أبدا لا ينفران، لماذا أسامة وحده؟ لعلها عبير، ومن قبل عبير، لعلها هذه الراقصة وبنتها الخليعة، لقد اقتلعته منهما بعملية جراحية عنيفة، ولكن لا بأس، لهذا يقول إنني أحب أن يظلوا محتاجين إلي، إنه لا يستطيع أن ينسى زواجه من عبير، وتركه لهذه الفتاة ابنة الراقصة.
ساحت بها السيارة في شوارع القاهرة، وفجأة وجدت نفسها أمام بيت أختها. - إنه يكلمني بثقة يا إلهام. - وما العجب؟ - لا بد أنه حصل على المال الذي سيسافر به. - ربما. - من أين؟ - وماذا يهمك؟ - أعرف. - لماذا لا تتركينه يسافر يا سهام؟ - يسافر يا إلهام؟ يسافر أسامة، ويقيم بعيدا عني، أجننت؟ - بل أحسب أنك أنت التي جننت. - هل من تحب ابنها مجنونة؟ - بل من تقتل ابنها بحبها هي المجنونة. - أنا يا إلهام ... أنا؟!
ذوقي إذن من كأس لم تذوقي منه أبدا، لقد عشت تحقدين على جمالي، وتركت لك الأطفال لم أنسل منهم شيئا، ولم تتركي الحقد علي، ذوقي اليوم من أطفالك الغصة، تريدين اليوم أن تحبسي ابنك في سجونك التي صنعتها من المال، ووضعت فيها زوجك ليكون أشبه بالقرد المضحك يتحرك بإشاراتك وأصابعك، ولكن أسامة رفض أن يكون مثل أبيه، أتحسبين المال كل شيء؟ إن كنت تملكين المال، فإن غيرك أيضا يملكه، قولي ولا تسكتي، أعرف حديثك هذا: إن أسامة ما يزال صغيرا. ألم يكن صغيرا يوم أرغمته على الزواج؟ إنه لا يعرف كيف يتصرف. فلماذا لا تجعلينه يتعلم كيف يتصرف؟ ربما يمرض، وما البأس أن يمرض؟! في كل بلد أطباؤه، اتركي عنان الفتى يا سهام، اتركي أسامة يا سهام. - اتركي أسامة يا سهام. - أتركه لمن؟ - لنفسه. - إنه أهبل. - لم تقولي هذا حين خطب عبير. - وعبير طفلة. - دعي الأولاد يكبروا معتمدين على أنفسهم يا سهام. - إلهام هل أنت التي أعطيت أسامة مصاريف السفر؟ - وما البأس؟ - إذن فلن أدخل بيتك مرة أخرى، لو كان لك أولاد لفهمت. وابتسمت إلهام وهي ترى أختها تنتفض خارجة تاركة وراءها كثيرا من الضجيج في الشارع وحدها مرة أخرى، تريد أن ترى دري ولا تدري أين تجده، ليس عجيبا أن تساعد أسامة على عصياني؛ فهي لا أولاد لها، وحقد الأخت أشد من حقد الآخرين، وما لها لا تحقد، لقد بدأنا أنا وهي في السن الذي نفكر فيه في أمور أخرى غير جمالنا، لقد بلغت سن الحقد وبلغتها أيضا، فما هذه العلاقة بدري؟ إنها علاقة ممتدة لم أبدأها الآن، وإنما هي تسير؛ لأنه من الطبيعي أن تسير، ولكن أين دري؟ هو طبعا ليس في الشقة، وماذا يمكن أن يصنع هناك وليس بيننا موعد؟ ولكن لا بد أن أراه.
كيف يسمح لإلهام أن تعطي أسامة ما يحتاج من نقود ليسافر، طبعا هي تدعي أنها تنقذه مني، كأنما تحبه أكثر مما أحبه أنا، لا أحد يحب أبناءه قدر ما أحب أنا أسامة وفريدة، إنهما نبضة من قلبي، إنهما الدماء التي تجري في عروقي، إنهما كل شيء لي، وأنا أيضا كل شيء لهما، كيف يفكر أسامة في عصياني؟ لا شك أن إلهام شجعته على ذلك، وليس ببعيد أن عبير أيضا شجعته، لا أحب هذه العبير إنما زوجتها له إنقاذا من البلوى الأخرى ابنة الراقصة، كيف أرى دري؟
لماذا لا أذهب إلى الشقة وأظل أطلبه حتى أجده؟ لن أستطيع النوم الليلة إذا لم ألتق به، والدنيا برد، وما أظنه سيتأخر عن البيت. لعله يكشف في مكان ما، أو لعله في زيارة لصديق، ولكن ما يلبث أن يروح.
ذهبت إلى الشقة، إن الصالة مضيئة، إذن فهو هنا، لعله مر مرورا عابرا، إني سعيدة أن أجده، فتحت الباب، ليس بالصالة أحد، ولكن هناك شيء ... شيء ... شيء، إنه معطف ... معطف كهذا الذي اشتريته لفريدة، وصرخ كيانها جميعا، لا، واحتبست الصرخة لا تصل إلى الشفاه، أمعقول هذا؟ هي خطوة أو خطوتان وأعرف الحقيقة كاملة، ولكن هل أريد أن أعرفها؟ أحست أن الأرض تميد بها وراحت تلقي نظرها على الأشياء، لقد اشترت هذا الطاقم، هذه الكنبة وهذا الكرسي هي التي اشترتهما، هذا الكرسي الذي يحمل المعطف اللعين هي التي اشترته، وكانت سعيدة وهي تشتري أثاث الشقة، وكأنها عروس تجهز نفسها للمرة الثانية، بل للمرة الأولى فهي في زواجها لم تختر الأثاث بحرية، وإنما كانت تختاره لها أمها، أما لهذه الشقة فهي وحدها صاحبة الاختيار، راحت تنظر إلى الأثاث في سرعة، ورأت نفسها في المرآة لا ... إنها ليست هي ... ليست هي تلك الغادة التي اشترت هذه المرآة، بل إنها ليست هي هذه السيدة التي دخلت منذ لحظات، وفجأة تنبهت، إنها ليست في المكان الذي ينبغي لها أن تكون فيه، يجب أن تكون في أي مكان ... أي مكان. وليكن الجحيم، ولكن أبدا لا يجوز لها أن تكون الآن وفي هذه اللحظة في هذا المكان.
خرجت وأغلقت الباب بهدوء يعدل الثورة التي تمور في نفسها، وهمت أن تأخذ المفتاح معها، ولكن وجدت أنه لم يصبح لوجوده في حوزتها أي سبب، تركته، ولم تنتظر المصعد، وإنما راحت تهرول على السلم تريد أن تبتعد، لم تكن تريد أن تبتعد عن دري، ولكن تريد أن تبتعد عن الحقيقة، قد يكون المعطف معطف فريدة، وقد لا يكون، ولكنها لا تريد أن تعرف الحقيقة أبدا ... أبدا لا تريد أن تعرف الحقيقة، إنها تريد أن تترك للوهم والتخمين مجالا واسعا، ولا تريد هذه الحقيقة القاصمة القاتلة السفاكة.
إنها فقدت دري، ولعلها تستطيع أن تفقده، ولكن ابنتها كيف تفقدها؟ وكيف تنسلخ عنها لتكن فريدة هي شريكة دري، ولكنها لا تريد أن تعرف، ولتكن غيرها، ولكنها لا تريد أن تعرف، يكفيها أنها عرفت أنها فقدت دري وإلى الأبد.
ركبت السيارة، واندفعت مجنونة تبحث عن شيء تمارس عليه جنونها، ولم تجد إلا عجلة القيادة، وسرعان ما تبينت أن زحام الطريق لن يتيح لها هذا الجنون، أوقفت السيارة في شارع بعيد عن شقة الخيانة، ونزلت إلى الطريق. لم ترد أن تعود إلى البيت قبل فريدة؛ فقد كان أخشى ما تخشاه أن تذهب إلى البيت، وتبحث عن المعطف فلا تجده، أو تنتظر فريدة فتجدها داخلة إليها وهي تلبس المعطف.
Página desconocida