وثم اعتبار آخر، هو العلاقة الحيوية بين الذهن والثقافة، حين ندرس مختارين متطوعين ليس علينا قسر، فانظر مثلا إلى شاب في السابعة عشرة من عمره يقرأ موضوع التناسليات؛ فإنه يطلب هذه المعارف كما تطلب المعدة الطعام؛ لأن حاجته هنا تنبع من نخاع عظامه وأعماق نفسه، أو انظر إلى رجل قد فات الخمسين يدرس الدين، فإن كنوزه من الاختبارات الماضية تجعله يطلب هذه المعارف بقوة وذكاء وحرص وتدقيق لم يعهد مثلها من قبل، أو انظر إلى قيمة الجريدة اليومية أيام الحرب، حين يستحيل كل منا إلى بسمارك أو جلادستون، ليس له حديث غير السياسة، حين يصير مستقبل العالم كأنه مستقبلنا الخاص.
فهذه الظروف جميعا تجعلنا نقبل على القراءة، وبعيد جدا أن ننقل هذا الجو إلى المدرسة أو الجامعة؛ لأنه جو محلي محدود في أغلب الأحيان، ومن هنا قيمة التثقيف الذاتي.
زيادة الفراغ وزيادة المسئولية
هناك أسباب أخرى تحمل كل شاب على أن يثقف نفسه.
وأول هذه الأسباب وأوضحها أن الفراغ يزداد؛ فإن استخدم الآلات، أي الحديد والنار والكهرباء، قد خفض ساعات العمل للكسب، وسوف يخفضها أكثر في المستقبل، ولن يكون اليوم بعيدا حين نصل إلى مجتمع راق يكفي أحدنا كي يحصل على عيشه، أن يشتغل ساعتين في اليوم، ثم يفرغ سائر نهاره وليله لراحته ومتعه الذهنية والجسمية والروحية، ونحن نرى في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد السوفيتي ما يومئ إلى هذه الحال؛ فإن سكان الولايات المتحدة قد اشتبكوا حوالي سنة 1860 في حرب أهلية بسبب العبيد، وكان فريق منهم يعتقد أن من حق الأبيض أن يملك العبد الأسود، يشتريه ويستغله ولا يتكلف في ذلك سوى طعامه.
ولكن الحرب أدت إلى إلغاء الرق، ومع ذلك صار الأمريكيون أكثر ثراء وأوفر فراغا مما كانوا أيام الرق؛ ذلك أن استخدام الآلات في الإنتاج قد جعل كل أمريكي يملك أكثر من خمسين حصانا (من القوة) هي بمثابة مئة عبد، وكان الأمريكي يعمل حوالي سنة 1860 نحو عشر ساعات أو 12 ساعة في اليوم كي يحصل على عيشه، أما الآن فهو يعمل نحو ست ساعات، مع عطلة أسبوعية هي يومان كاملان، وهذه الساعات الست سوف تكون خمسا، ثم أربعا ... إلخ؛ ذلك لأن الآلات في تقدم لا ينقطع.
وكذلك الشأن في الاتحاد السوفيتي، حيث تخلص الشعب من عذاب القيصرية وأخذ في إنشاء المصانع فزاد الأفراد ثراء وفراغا معا.
وهذه الحال - على الرغم من المبادئ الإمبراطورية والاستعمارية الشائعة - سوف تعم الدنيا، فيجب أن نوطن أنفسنا على أن الفراغ سيزداد، وهذا الفراغ سيثقل علينا عبئا باهظا إذا لم نشغله باهتمامات ثقافية حيوية، ونحن حين نتوسم طوالع المستقبل نحس أنه يجب على المدارس من الآن أن تعلم تلاميذها كيف يقضون فراغهم أكثر مما يجب عليها أن تعلمهم كيف يحصلون على عيشهم؛ ذلك لأن تحصيل العيش لن يحتاج إلى أكثر من ساعتين في اليوم، وهو لم يعد فنا؛ لأن العامل يندمج بين آلاف العمال فيتحيز جزءا صغيرا من العمل الذي يؤديه تأدية آلية خالية من المجهود العضلي تقريبا، أما الفراغ فلن يقل عن 22 ساعة، إذا فرضنا أن 10 ساعات منها تقضى في الطعام والنوم، بقيت 12 ساعة يجب أن يشغلها بما يرقيه، فإذا جهل الوسائل لهذه الترقية فإنه يحس خواءا ذهنيا لا يطاق، أو هو يملأ فراغه بتسليات سخيفة، أو ربما يقع في غوايات ضارة.
لقد كان الفراغ في العصور القديمة مقصورا على النبلاء والأثرياء، وكان ترفا غاليا لا يحصل عليه الفقير، وجمهور الأمة كان من الفقراء، ولكن هذا الترف يستفيض - بفضل الآلات - بين جميع أفراد الشعب، حتى عمال الزراعة أنفسهم سوف يجدون هذا الفراغ حين يتركون آلاتهم البدائية ويستعملون آلات القوة البخارية والموطرية، والتثقيف الذاتي لهذا السبب ضرورة حتمية كي نملأ بها هذا الفراغ ونستغله.
وسبب آخر يجعل هذا التثقيف حتميا: أن المجهود العضلي الذي كنا نبذله في الزراعة والصناعة والتجارة قد استحال إلى مجهود ذهني؛ فالقوة العضلية في الإنسان لم تعد لها قيمة كبيرة إلا في المباريات الرياضية، والمصانع تؤسس الآن في الأمم المتمدنة التي نرجو أن نصل إلى مستواها، بحيث تكاد تعمل مستقلة أتوماتية، فتتسلم المواد الخامة من ناحية وتخرجها من ناحية أخرى مشغولة مهيأة للاستعمال، وكل ما على العامل أن ينظر ويشرف ويصل هذا المفتاح بذاك.
Página desconocida