القاهرة في مايو 1958
موضوع هذا الكتاب هو تخريج الرجل المثقف؛ فهو يبحث الثقافة ماهية وغاية وقيمة، كما يبحث الوسائل لتحقيقها، وقد كان من حظي أن أكسب كلمة الثقافة معناها العصري، كما أني صرفت شطرا كبيرا من حياتي الوجدانية في التوجيه الثقافي لشبابنا بمؤلفات مختلفة قامت فيها المبادئ العصرية مقام المبادئ التقليدية، وكانت مشكلات الثقافة عندي بمثابة المشكلات السياسية أو الدينية عند غيري، بل كثيرا ما كانت هذه المشكلات شخصية، أواجه فيها تربيتي الخاصة ونموي الذهني.
ونحن في مصر نعيش في بؤس ثقافي أو فاقة فكرية تقارب العدم، وليس فينا من يجهل الأسباب، بل السبب الوحيد في ذلك؛ إذ قد حال الاستعمار بيننا وبين التعليم العصري حتى إنه لم تؤسس وزارة المعارف مدرسة ثانوية للبنات إلا في سنة 1925، وحتى إن جامعة القاهرة بقيت طريدة لا تعترف بها الحكومة أكثر من عشرين سنة، بل حسب القارئ أن يذكر القيود التي كانت تفرض على الراغبين في إصدار المجلات، وهناك قيود أخرى عديدة لا يمكن أن تفسر إلا بأنه كانت هناك رغبة مثابرة في إنكار حقنا في التطور الثقافي.
ولكن شهوة الرقي التي تنبض في نفس الشباب، استطاعت على الرغم من كل هذه العوائق أن تستحدث جوا ذهنيا تيسر فيه التأليف إلى درجة ما، فكثرت بعض المؤلفات، وتكونت لها سوق صغيرة، وصار في مستطاع الشباب الذي يجهل اللغات الأوروبية أن يجد فيها تنبيها وفائدة، ومع أننا ما زلنا بعيدين عن الوقت الذي نستطيع فيه أن نقول إن الشاب المصري يمكنه أن يجد الثقافة السامية الوافية في المؤلفات العربية؛ فإننا على الأقل نستطيع أن نقول إنه سيجد فيها ما ينبهه ويرقيه منها، ولن يكون الزمن بعيدا حين تزكو المؤلفات وتتفاعل مع مجتمعنا المتغير، فيكون التطور الذهني الذي ننشد، وعندئذ نستطيع أن نهتدي بثقافة حية في هذه البلبلة العصرية التي تتصارع فيها الفكريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولا يخلو شاب من نزعة ارتقائية تبعث فيه الرغبة والنشاط كي يعلو على نفسه، ويسمو إلى مستويات أرفع من المستوى الذي يعيش فيه، وهذه النزعة إلى الارتقاء، أو كما يسميها «برناردو شو» شهوة التطور، تتخذ أشكالا مختلفة تتأثر بالبيئة الاجتماعية والمثليات المنشودة، فقد يطمح الشاب إلى الثراء أو الوجاهة أو الرياضة أو الدراسة، وقد يكون اختياره لواحد من هذه الأهداف أو لغيرها طفليا، متأثرا بسلوكه أيام الطفولة، كأنه رواسب السنين الأولى من العمر، وقد يكون ناضجا، قد نشأ عن وجدان (أي وعي) أو بشيء على الأقل من الوجدان.
وهذا الكتاب هو محاولة لإرشاد الشباب نحو الارتقاء الثقافي في حدود البيئة الاجتماعية المصرية أو العربية على وجه عام، أو هو توجيه لشهوة التطور، وإيضاح للصحيح والزائف من النشاط الدراسي، فنحن نعيش في عصر انفجاري مملوء بالأحداث والثورات والحروب والانقلابات، ولم يحدث قط أن عاش البشر في مثل عصرنا؛ ففي أقل من خمسين سنة، أي من 1916 إلى 1956، شبت حربان عالميتان، وعم النظام الاشتراكي 1000 مليون إنسان، وظهرت القنبلة الذرية، ثم القنبلة الهيدروجينية، واتصلنا بالقمر عن طريق الرادار، وليس بعيدا أن نصل إليه محمولين على الصواريخ، وأصبحت مواخر الجو تزاحم مواخر المحيط، وتوشك المكالمة الراديوئية أن تأخذ مكان المكالمة التليفونية ... و ... و ...
وكل هذا يدل على أن وطأة العلم على المجتمع قد اشتدت، وأن الثقافة قد أصبحت ضرورة محترمة على كل إنسان، وأننا يجب أن نتغير ونتكيف ونتطور؛ لأن الركود في مثل هذه الظروف جريمة، والتغير الذهني بالارتقاء الثقافي هو بعض هذا التطور، أو هو أهمه.
والتغير الآلي في المخترعات يحدث حتما تغيرا في الإنتاج والمواصلات، ثم تتغير السياسة والاقتصاد والمجتمع نتيجة لذلك، ومعنى هذا كله أن الثقافة دائمة التغير، وأننا إذا ركدنا، أو تحجرنا، فإننا لا نرفض العيش وفق الاتجاهات الجديدة فقط، بل نرفض الفهم والمعرفة، وننساق في المجتمع كأننا حطامة يحملها التيار بلا وجدان أو دراية بموقفنا.
فنحن، سواء أشئنا أم لم نشأ، نعيش في مجتمع متطور، ونحتاج إلى الدراسة الدائمة كي نقف على الاتجاهات والغايات التي ننساق بها وإليها فيه، فيجب لهذا السبب أن يكون لكل منا برنامج ثقافي هو برنامج الحياة، بحيث نعيش لنقرأ ونقرأ لنعيش، وهذا البرنامج يقبل بالطبع التنقيح والتغيير، ولكن يجب ألا يخلو إنسان منا من برنامج ينتظم به ارتقاؤه الذهني.
وفي الفصول القصيرة التالية إرشادات، هي لإيجازها تكاد تكون إيماءات للقارئ، فإني توقيت التفصيل اعتمادا على أن القارئ يستطيع بذكائه أن يتمم ما نقص، ولكني أسهبت في الشرح حين كنت أصطدم بصعوبة سيكلوجية تعوق الدراسة؛ لأن القارئ ربما يعجز عن تخطيها.
Página desconocida