إكسينوفان وميليسوس كلاهما من الأسماء البعيدة القدم. ومن الصعب لأول نظرة الاقتناع بأن درسهما يبعث اهتماما جديا هذه الأيام. هذان الفيلسوفان كانا يعيشان في القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد، وعلى هذا المدى فليس إلا التنقيب وحده - فيما يظهر - هو الذي ما زال يوليهما العطف الذي انقضى زمانه، ويستقصي مذاهبهما المنسية منذ زمان بعيد. لست أقصد في الحق إلى انتقاد التنقيب، ولكني أدرك ما يثير ثائره من التحامل البادر عندما يتوغل في درس تلك الأزمان البعيدة؛ إذ تنعدم المراجع الوثيقة فلا يبقى لنا من أعيانها إلا آثار لا صور لها. على أني في هذا الموطن أكثر مما في سواه أسأل أن يصغى إلى التنقيب لحظة؛ فإن الموضوع الذي يحاوله فيما يتعلق بإكسينوفان هو موضوع من أهم موضوعات تاريخ العقل البشري وأكثرها حيوية.
إنه ليس أقل من أن يكون ميلاد الفلسفة في هذا العالم الذي نحن منه.
أما من جهة الفلسفة الشرقية فإننا لا نعرف، بل ربما لن نعرف أبدا من أمرها شيئا معينا بالضبط فيما يختص بعصورها الرئيسية وانقلاباتها، فإن أزمنتها وأمكنتها وأهلها تكاد تعزب عنا على سواء. إنها مستعصمة دون إدراكنا، مدعاة للشكوك لما يغشاها من كثيف الظلمات، حتى لو عرفنا منها هذه التفاصيل مع الضبط الكافي لما أفادنا ذلك إلا من جهة إرضاء رغبتنا في الاطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيرا. إن الفلسفة الشرقية لم تؤثر في فلسفتنا، ومع التسليم بأنها تقدمتها في الهند وفي الصين وفي فارس وفي مصر، فإننا لم نستعر منها كثيرا ولا قليلا، فليس علينا أن نصعد إليها لنعرف من نحن ومن أين جئنا، والأمر على الضد من ذلك مع الفلسفة الإغريقية، إننا بها نتصل بالماضي الذي منه خرجنا، وعلى الرغم من عماية الكبرياء التي هي في الغالب جانية الكفران يجب علينا ألا ننسى أبدا أننا أبناء إغريقا. إنها أمنا في جميع أمور العقل تقريبا، فلئن ساءلنا أوائلها فإنما نسائل أصولنا، فمن طاليس، ومن فيثاغورث، ومن إكسينوفان، ومن أنكساغوراس، ومن سقراط، ومن أفلاطون، ومن أرسطوطاليس إلينا لا يوجد إلا فرق الدرجة. نحن جميعا في طريق واحد مستمر من قرون عديدة، ومتصل بلا انقطاع، لا يتغير اتجاهه، بل يصير على مرور الزمان أكثر طولا وأبهى جمالا . والظاهر أننا لا نخجل من الانتساب إلى أمثال هؤلاء الآباء، وكل ما علينا هو أن نبقى حقيقين ببنوتهم بأن ندرج على سننهم.
قد أمكن القول - لا من غير حق - بأن الفلسفة ولدت مع سقراط،
1
والواقع أن لهذا الرجل العجيب من المقام ما يسمح بأن يسند إليه هذا الشرف العالي، بأن يقرن اسمه بهذه الحادثة الكبرى. ولكن سقراط بتواضعه المعروف ما كان ليقبل هذا المجد؛ فإنه كان يعلم أكثر من كل إنسان أن الفلسفة قد كانت تنشأ من قبله بنحو قرنين إلى أن جاء فأفاض عليها قوة وجمالا لم يفارقاها بعده. لم يكن مولد الفلسفة في آتينا، بل في آسيا الصغرى؛ لأنه يجب تأخير هذه الحادثة مائتي عام إلى الوراء تقريبا، إلا أن تمحى من التاريخ تلك الأسماء العظام الأولى التي ذكرتها. إن التقدم الذي افتتح سقراط بابه لم يكن إلا استمرارا لا ابتكارا وإبداعا.
كل الأصول غامضة بالضرورة. يجهل المرء نفسه دائما في أول الأمر، وأن تعرف سنة هذه القرون الأولى مقرون بالشك الذي يلحق أيضا الحوادث ذاتها التي مرت كأنها غير محسوسة. ومع ذلك إذا لم يلتزم هنا الضبط غير الممكن فإن أوائل الفلسفة اليونانية يجب أن تظهر لنا أجلى من أن يدعو للشك في أمرها سبب محسوس.
كان طاليس من ملطية، وقد حقق التاريخ وجوده في جيش أحد ملوك ليديا نحو آخر القرن السادس قبل المسيح. وبعده بقليل جاء فيثاغورث الذي بعد أن عاد إلى وطنه ستموس إثر سياحات طويلة فر منه اتقاء لظلم بوليقراطس الذي كان يضطهده، وذهب يحمل مذاهبه على الشطوط الشرقية لإغريقا الكبرى إلى سيبارس وقروطون. أما إكسينوفان فإنه لأسباب أشبه بالمتقدمة نزح عن كولوفون وطنه الأول، ولما اجتمع ببعض المهاجرين من فوكاية، الذين هم بين أنياب الأخطار قد وجدوا آخر الأمر موئلا على شواطئ البحر الترهيني في إيليا (هييلا أوفيليا)، أسس في هذه المدينة الحديثة العهد وقتئذ مدرسة شهرت ذكرها.
أصرف القول الآن إلى هؤلاء الثلاثة العظماء الذين كانوا جميعا رؤساء مدارس خالدات، وإن كنا لا نعرف منها إلا الشيء القليل: مدرسة يونيا، ومدرسة فيثاغورث، ومدرسة إيليا، وعما قريب أستطيع أن أضم إلى هذه الأسماء طائفة من أسماء أخر، لا يستطيع تاريخ الفلسفة أن يغفلها كما لا يستطيع إغفال الأولى.
ولكني - لا لشيء غير الفكرة في أمر طاليس وفيثاغورث وإكسينوفان - أشعر بأمر يسترعي نظري، أنهم ثلاثتهم من هذا الجزء من العالم الهليني الذي يسمى آسيا الصغرى، وأنهم تقريبا متعاصرون. إن ملطية التي هي في القارة، وسموس في الجزيرة التي بهذا الاسم، وكولوفون في شمال إيفيزوس بقليل، تكاد لا تتجاوز الأبعاد بينها خمسة وعشرين فرسخا.
Página desconocida