والسبب الذي جعل هؤلاء الفلاسفة يرون - أقل من الآخرين - الظواهر التي هي محل وفاق بين الناس جميعا هو عدم المشاهدة. وعلى ضد ذلك الذين استزادوا من فحص الطبيعة، أولئك أحسن حالا في استكشاف هذه المبادئ التي يمكن أن تنسحب بعد على حوادث ما أكثر عددها. ولكن هؤلاء الذين هم تائهون في نظريات معقدة لا يلاحظون الأحداث الواقعة، وليست أعينهم موجهة إلا إلى عدد قليل من الظواهر، وهم يحكمون بسهولة كبرى.
8
ها هنا أيضا يمكن أن يرى كل الفرق الذي يفرق بين الدراسة الحقة للطبيعة وبين دراسة منطقية محضة؛ لأن هؤلاء الفلاسفة من أجل أن يبينوا مثلا أنه يوجد ذرات أو أعظام غير قابلة للقسمة يدعون أنه إذا لم تكن تلك الذرات فإن المثلث نفسه - المثل الأعلى للمثلث - يكون مؤلفا مع أن ديمقريطس في هذه المسألة يظهر أنه لم يعول في حلها إلا على دراسات خصوصية وطبيعية محضة. ومع ذلك فإن ما سيلي من هذه المناقشة سيبين لنا ما نريد أن نقول بأوضح من ذلك.
9
من الصعوبة الكبرى افتراض أن الجسم يوجد، وأنه عظم قابل للقسمة إلى ما لا نهاية، وأنه من الممكن تحقيق هذه القسمة، فماذا يبقى في الواقع في الجسم الذي يمكن أن يخلص من قسمة كهذه؟ فإذا افترض أن شيئا قابلا للقسمة مطلقا وأنه حقيقة قسمته هكذا، فلا يكون من المحال في شيء أنه أمكن قسمته مطلقا مع أنه لم يقسم في الواقع ولا أنه قد قسم فعلا، والأمر كذلك إذن فيما إذا يقسم الشيء بالنصف. وعلى العموم لو أن شيئا قابلا بالطبع للقسمة إلى اللانهاية قد قسم لما كان ذلك محالا ألبتة، كما لا يكون محالا أن يفترض إمكان قسمته عشرة آلاف مرة مضروبة في عشرة آلاف مع أنه لا أحد يستطيع المجاوزة بالقسمة إلى هذا الحد.
10
ما دام الجسم معتبرا أنه حائز لهذه الخاصة، فلنسلم أنه يمكن قسمته مطلقا على هذا النحو، ولكن إذن ماذا يبقى بعد هذه التقاسيم؟ هل سيكون عظما؟ لكن ذلك غير ممكن؛ لأنه إذا يوجد شيء فر من عملية التقسيم وكان الفرض - على الضد - أن الجسم قابل للقسمة من غير أي حد ومطلقا. ولكنه إذا لم يبق جسم ولا عظم وظلت القسمة مستمرة، فإما أن القسمة لا تقع إلا على نقط، وإذن تصير العناصر التي تركب الجسم عديمة العظم، وإما ألا يبقى هناك شيء أصلا.
11
ينتج من ذلك أنه، سواء أكان الجسم يأتي من لاشيء أم يؤلف من أجزاء، فالأمر على الحالين تصيير الكل إلى ألا يكون إلا ظاهرا، حتى مع التسليم بأن الجسم يمكن أن يأتي من نقط، فلا يكون هناك أيضا كم. وفي الواقع لو أن هذه النقط كانت تتماس لتؤلف عظما واحدا، وأن العظم كان واحدا، وأنها كلها فيه؛ فإن جميع هذه النقط المجتمعة ما كانت لتجعل الكل أكبر؛ لأن الكل بانقسامه إلى نقطتين أو عدة لا يكون لا أكبر ولا أصغر من ذي قبل، بحيث إنه مهما جمع من تلك النقط فلا يمكن الوصول أبدا إلى تأليف عظم حقيقي منها.
12
Página desconocida