نحن نعرف فلاسفتنا ونعرف بعض الحوادث الرئيسية في حياتهم، نعرف بعض مؤلفاتهم إن لم تكن لدينا كلها، وإذا كان هوميروس هو وحده الذي وصل إلينا كاملا تقريبا بفضل أفلاطون فقد كان يمكن أن يصل إلينا الآخرون إذا لم تكن المصادفة أعدمت تآليفهم التي هي مستودعات أفكارهم؛ إذن فقد كتب الأقدمون، ومن ذا الذي يجعل ذلك موضعا للشك؟! هذه النظرية التي أقر بها هنا ليست قاصرة على ما يتعلق بطاليس وفيثاغورث وإكسينوفان ومعاصريهم، ولكنها تنسحب أيضا على من قبلهم وعلى من بعدهم إلى مسافات طويلة، كيف خرجت من أيدي مؤلفيها تلك المؤلفات التي هي الآن تحت أيدينا كاملة أو آثارا ناقصة ومخرومة ؟ وعلى أي مادة كتبت بادئ الأمر؟ وماذا كانت وسائط الكتابة في عهد إكسينوفان بل في عهد ليكورغوس أو هوميروس؟
ولأجل أن يكون بحثنا في حدود وضعية ضيقة نتساءل كيف كانوا يكتبون في المستعمرات الإغريقية بآسيا الصغرى في حاجات تجارتهم النشطة ومقتضيات سياستهم المعقدة الحازمة وشعرهم الحاد وعلمهم العجيب، وبالجملة في سائر حاجات عيشة اجتماعية راقية مليئة بالأعمال.
أظن أننا الآن بحيث نجيب على هذه المسألة بطريقة قاطعة واضحة تمام الوضوح، ولكن قبل أن نقول كلمتنا في هذا اللغز نرى من الحسن تقديم حوادث مسلم بها لنبين أن استعمال الكتابة قبل الميلاد المسيحي بسبعة قرون في آسيا الصغرى بل في فارس نصف المتوحشة كان من الانتشار والسهولة على ما هو عليه عندنا الآن. كانت موادها أشياء أخرى، ولكنها تكاد تساوي المواد التي نستعملها اليوم إلا أعجوبة المطبعة. لم يكن للناس في تلك الأزمان البعيدة ورق كالأوراق التي عندنا، ولكنهم كان لديهم ما يساويه وما يؤدي لهم المطلوب من الورق.
أفتح بالمصادفة هيرودوت وطوكوديدس وإكسينوفان وأفلاطون وأرسطو، وأخذ الأشياء كما رووها بل كما رأوها وكما استعملوها.
أضمر هربغوس وهو في معية أصطياغ - ملك الميديين - أن ينتقم من سيده القاسي انتقاما وينتصف لنفسه، وأراد أن يتفق مع قيروش الذي على حداثة سنه كان له بين الفرس من النفوذ ما سيخرج منه مملكة فسيحة الأرجاء. لما لم يسع هربغوس أن يتصل مباشرة بالأمير الشاب الذي يحمل هو أيضا ما يدعوه للانتقام، أرسل خادما أمينا يحمل إليه بعض الصيد، وجعل في بطن أرنب كتابا أخفاه فيه يحرض به قيروش على الثورة، ويؤكد له مساعدته إياه، ماذا فعل قيروش؟ لما فتح بطن الأرنب بيده، كما أوصى المهدي خادمه به، وقرأ الكتاب بمعزل. وضع كتابا مزورا يفيد أن أصطياغ قد عينه رئيسا على الفرس التابعين وقتئذ للميديين. وقرئ ذلك الكتاب المزور على أعضاء عائلة الأشيمينيين فصدقوه، وبهذه المثابة قادهم قيروش على غير علم منهم وحارب بهم أصطياغ وخلعه.
16
ولم يكن هربغوس وقيروش مع ذلك إلا متوحشين. ولكن ها نحن أولاء بصدد أناس متعلمين في آسيا الصغرى وفي مصر.
وهذا بوليقراطس طاغية سموس وهو على سرير ملكه متمتعا بالرفاهية إلى غايتها والناس الذين يعجبون به أو يخافون بطشه يكبرون منه حذقه وسعادته، وكان له بأمازيس الحكيم - ملك مصر - رابطة اتفاق بل صلة صداقة؛ فخاف أمازيس على صاحبه ذلك الموفق المهيب مما اجتمع له من التوفيق المستمر أن يتغير له الدهر، وهو يعلم أنه لا ثبات للحظوظ الإنسانية؛ فنصح له أن يحذر الغير في تقلب القدر. كتب له بذلك خطاب عطف ونبوة، أوصاه فيه أن يضرب على نفسه قربانا يتقي به سخط الحظ الخادع الخائن إن استطاع؛ فأجابه بوليقراطس الذي يخشى على نفسه ما يخشاه صاحبه بخطاب أرسله إليه في مصر، ذكر له فيه الوسيلة التي اتخذها ليصيب نفسه بمحض اختياره بمصيبة موجعة. والمصادفة الخارقة للعادة هي التي صيرت قربانه عبثا، فكان أمازيس وبوليقراطس يتبادلان الرسائل بين سموس ومنفيس على نحو السهولة التي يتخاطب بها التجار في وقتنا الحاضر بين أزمير والإسكندرية.
17
لست أدعي أن الخطاب الذي نسبه هيرودوت إلى أمازيس صورة رسمية من خطابه الأصلي لا يتطرق إليها الشك، ولكنه لا محل لأدنى شك في أن الملكين كانا يتبادلان الرسائل الكتابية.
Página desconocida