وقد واصل أليات بن سدواتيس محاربة مدينة ملطية خمس سنين، وكان يظن وقوعها في يديه بالقحط وشيكا لولا أنه استشار وحي دلفوس - كما كان يفعل أجداده - فجنح لعقد الصلح معها، وساعد على ذلك مهارة طراسوبولس طاغية ملطية وقتئذ؛ إذ أنبأه جلية الأمر صديقه برياندروس بن كوبسيلوس طاغية كورنتا، فأخفى عن سفير ليديا حقيقة الحال السيئة التي وقعت فيها المدينة من جراء الحصار، وأوهمه أن في باطن أسوارها من الأرزاق والذخائر ما لم يجتمع لها مثله من قبل؛ وبذلك انخدع أليات بما خبره به سفيره المخدوع وأمضى عهد ملطية في حين أنه لم يكن بينه وبين الاستيلاء عليها إلا القليل.
وقد استمر هذا السلام الذي يرجع الفضل فيه إلى الوحي ودهاء طراسوبولس زمانا طويلا، ومات أليات بعد أن حكم سبعة وخمسين عاما حكما مملوءا بالاضطراب. وفي هذا الزمن لم يقطع صلته الحسنة بكاهنة دلفوس، وقد اعتراه مرض طالت مدته، فلما برئ باستشارة الوحي قدم إلى إله دلفوس كأسا جميلة من الفضة قاعدتها من الحديد فنية الصنع، صاغها جلوكوس الشيوزي مخترع ذلك النمط الحديث الذي بالغ الناس في الإعجاب به.
لم تكن حرب ملطية هي الوحيدة التي أجج نارها أليات، بل استولى على أزمير مستعمرة كولوفون، وهاجم مدينة كلازومين الواقعة على مسافة قليلة إلى الغرب في الخليج بعينه، ولكن كلازومين ردته عنها وحملته خسائر عظيمة. غير أن أليات ألهم التوفيق وخدم آسيا كلها خدمة حقيقية بأن حول قواه إلى محاربة القميريين الذين استولوا في عهد جده أردوس على تلك الولايات الآمنة المخصبة؛ فإنهم لما طردهم السيتيون الرحل من مواطنهم اضطروا إلى النزوح جهة الجنوب ونفذوا من قوقازيا وولوا وجوههم جهة الغرب، وجازوا هالوس، وتقدموا إلى قلب آسيا الصغرى، وكانوا قد دخلوا سرديس عاصمة ليديا على حين غفلة من أهلها وأحرقوها إلا القلعة القائمة على صخرة شاهقة يجري من تحتها نهر بكتول؛ فهي وحدها التي استعصت عليهم، ثم ردوا عن المدينة بعد ذلك، ولكنهم ظلوا يهددون الأمن: يخيفون السابلة، وينهبون الأماكن المجاورة، حتى طردهم أليات من آسيا الصغرى، ودحرهم إلى الشرق، وقذف بهم بين الأجناس السامية التي كانت حدود أوطانها تنتهي إلى هالوس، ومن يومئذ يظهر أن علاقته بهم صارت من السهولة والعطف بمكان.
لكن هذه العلاقات التي كانت بين ليديا وبين السيتيين هي التي جرت على آسيا الصغرى جيوش الميديين ثم جيوش الفرس الذين هم أشد بأسا؛ فإن فصيلة من السيتيين لما طردوا من إقليمهم القاسي المناخ هبطوا إلى أرض ميديا في الشمال الغربي من نهر الفرات، فأحسن كواكزاريس - ملك الميديين - وفادتهم، ولم تقتصر حفاوته بهم على أن مكن لهم في وطنه، بل دفع إليهم صبيانا من الميديين ليعلموهم لغتهم وليتعلموا في مدرستهم فن الرماية. ولكن بعض هؤلاء المتوحشين المقربين من ملك ميديا غاظهم منه شدة في قول وجهه إليهم، فشفوا غليل صدورهم من هذه الإهانة بأن قتلوا الصبيان الذين هم في رعايتهم، واحتموا بمعية أليات ليتقوا شر العقاب الذي كانوا يتوقعون، فطلب كواكزاريس تسليم الجناة وأبى ملك ليديا تسليمهم، ومن ذلك قامت بين الليديين والميديين حرب لم تخب نارها خمس سنين أو أكثر. وهذا السبب كان تافها جدا، بل يظهر أن الخلاف قام على سبب آخر؛ لأن المملكتين متجاورتان، والاحتكاك بين أمم ما زالت متوحشة مثار خلاف لا يتقى.
هنا أستوقف النظر لحادثة في غاية الخطر من حيث تاريخ تلك الأمم ومن حيث تاريخ علم الفلك ومن حيث تاريخ الفلسفة جميعا: كانت تلك الحرب في سنتها السادسة، والتقى الجمعان وجنودهم على أشد ما يكون التحام بين المحاربين، وإذا بالشمس قد كسفت فغشيهم ليل مظلم اضطرهم إلى وقف القتال. ليس في هذه الحادثة ما يبعد احتمال وقوعها، وليس من الغريب أن تأخذ ظاهرة من هذا النوع بالعقول مأخذا عميقا، غير أن هيرودوت الذي حفظ لنا ذكرها زاد على حكايتها أن طاليس الملطي كان قد تنبأ بهذا الكسوف الشمسي ونبأ اليونان به وبالسنة التي يقع فيها.
8
لا شبهة لدي في رواية المؤرخ تلك التي قد أفسحت من البحث محلا لنظريات كثيرة على غاية الخطورة؛ فقد بحث العلماء أخيرا في حساب هذا الكسوف بالآلات الفلكية التي بين أيدينا الآن، والتي تكاد تكون معصومة من الخطأ رجاء تعيين تاريخ صحيح ثابت بين تلك الروايات المختلطة المشكوك فيها، ولكن لم يمكن الإجماع على أمر علمي محض ولا الاهتداء إلى الغرض المطلوب، فإن الأب بيتو قد حسب أن هذا الكسوف ينبغي أن يكون قد وقع في السنة الرابعة من الأولمبياد الخامسة والأربعين، يعني السنة 592 قبل الميلاد.
وأما سان مارتان الذي هو آخر من عني بهذه المسألة فإنه وجد أن كسوفا كليا يرى في هالوس حيث ملتقى الجيشين لا يمكن أن يكون إلا في 30 سبتمبر سنة 610ق.م (ر. مذكرات مجمع الرسوم الخطية والفنون الجميلة، السلسلة الجديدة، الجزء 12). وإذن يكون الفرق بين التقديرين ثمانية عشر عاما. ويمكنني أن أسرد آراء آخرين من المؤلفين الحديثين ليسوا أقل اختلافا من السابقين. أما بلاين عند القدماء فإنه عين هذا الكسوف بغاية الضبط في السنة الرابعة من الأولمبياد الثامنة والأربعين وفي السنة 170 من تأسيس روما.
9
وهذا التوافق المشكوك في ضبطه بين التاريخين يجعل ذلك الكسوف في سنة 580 تقريبا. ولست أريد الدخول في هذه التفاصيل؛ لأني لا أتطلع إلى إمكان الفصل فيها واستجلاء غوامضها، بل أقف عند حد الرجاء في أن علم الفلك يستطيع أن يضع رأيا قاطعا في هذه المسألة التاريخية.
Página desconocida