عيناها سقطت رموشها، جفت فيها دموعها، تقرب فمها من أذني وتهمس: «من ستين سنة وأكثر لما كنت عيلة صغيرة في المدرسة الابتدائي كان نفسي أبقى دكتورة عشان أهرب من العيشة السودة دي، لكن الحلم راح، اشتغلنا زي العبيد في الأرض عشان نعلم أولادنا في المدارس، ودخلوا الجامعة واتخرجوا بعد التعب والشقا في المذاكرة، وتعبنا وشقانا في الأرض، وأهم زي ما انتي شايفاهم، قاعدين جنبنا في البيوت من غير شغل، أو واقفين صايعين في الشوارع، ما فيش شغل ولا وظايف، ولا الأرض بقت تجيب تمنها ولا تمن الشغل فيها، زمان كنا بنزرع أكلنا وناكل عيشنا، دلوقتي بقينا نشتري العيش ونشتري الأكل، حتى الفول المدمس اللي كنا بنزرعه في أرضنا بقينا نشتريه في علب جاية من بلاد بره، بيقولوا عليها كاليفورنيا.»
أراها ترمقني بعينيها الذابلتين كأنما تسألني، ولا أعرف ماذا أقول لها، وما هي أحلامي التي يمكن أن أحدثها عنها في بداية الألفية الجديدة؟ هل أقول لها إن هناك نهاية لهذا البؤس الذي تعيشه وأهل القرية؟ هل أقول لها إن الأحوال تزداد سوءا عاما وراء عام؟ إن مصر تنوء تحت عبء الديون الخارجية، وإن هناك عجزا في الميزانية العامة، في التجارة والصناعة والزراعة، إن مصر تستورد طعامها، إن الفقراء يزدادون فقرا، والأغنياء يزدادون ثراء، وإن الفقر يصيب النساء أكثر لأنهن الشريحة الأضعف، الشريحة التي تطرد من سوق العمل بأجر بسبب البطالة، تحت اسم العودة إلى حظيرة الدين، هل أقول لها إن العالم يحكمه نظام فاسد قائم على القوة وليس الحق، وإن 443 رجلا فقط في العالم يملكون نصف ما يملكه ستة بليون من سكان الأرض؟ وإن هؤلاء الذين ينتجون ويتاجرون في الأسلحة يشعلون الحرب والفتن بين الناس تحت اسم اختلاف الدين أو العرق أو الهوية؟! وإنهم هم الذين يتاجرون بالمخدرات والعقاقير والأديان والبترول وصدام الحضارات؟ وإن الحكومات المحلية تعمل معهم ضد مصالح الأغلبية من البشر، هل أطلب منها أن تعمل أكثر هي التي لم تكف في حياتها عن العمل كل يوم من الشروق إلى الغروب؟
هل أقول لها إن المقهورات والمقهورين في بلاد العالم قد بدءوا يخلعون عن عقولهم الحجاب، يكتشفون الخديعة ويثورون ضد النظام العالمي الجديد والقديم، إن مظاهرات سياتل تتكرر في كل بلد، وإن الحواجز بين البشر سوف تسقط ويسقط معها النظام الدولي؟!
هل أشرح لها ماذا حدث في سياتل ؟ هل أقول لها إن أحلامي منذ الطفولة هي أحلامي، وأنني حين أنام أشهد سقوط هذا النظام غير العادل؟ هل أقول لها إنها هي زكية بطلة روايتي «الإله يموت في حضن» زكية المرأة المكلومة الثكلى التي استطاعت أن تتحدى العمدة، وتكشف الصلة الخفية بين السلطة السياسية والسلطة الدينية في القرية؟
ثم دق جرس التليفون فوق مكتبي، جاءني صوت المحررة من لندن تسألني عن المقال، قلت لها كتبت نصفه فقط وباللغة العربية، قالت أرسليه بالفاكس، وسوف نجد له مترجما، ويمكنك إرسال النصف الباقي غدا حتى يمكن نشر المقال بعد غد.
إلا أنني لم أكتب النصف الآخر من المقال، كنت أعرف أنني قلت ما أريد في النصف الأول، إن أحلامي لم تتغير منذ كنت طفلة صغيرة في القرية، تحلم بالحرية، تحلم أن الفروق بين البشر قد اختفت، فلا شيء يفرق المرأة عن الرجل، أو الأب عن الأم، أو الولد عن البنت، أو المسلم عن القبطي، أو العامل عن الفلاح عن العمدة، ألسنا جميعا أولاد وبنات تسعة - كما كانت جدتي الفلاحة تقول - (تسعة يعني شهور حمل داخل الرحم) يستوي في ذلك الملك والغفير والغني والفقير والرجل والمرأة، صوت جدتي لا زال يسري في أذني - رغم مرور أكثر من ستين عاما - «ربنا هو العدل عرفوه بالعقل» وإذا كان الله هو العدل فما الفرق بين دين ودين؟ لماذا لا تلغى إذن خانة الدين من بطاقات الشخصية؟! ولماذا يشطبون على أسماء الأمهات فوق كراريس التلاميذ والتلميذات؟! السؤال الملح لم يفارق عقلي منذ دخلت المدرسة.
القاهرة 2000
الخيال الذكوري المبتور في الأدب الشائع
الخيال المبتور في نظري أكثر خطورة من الجسد المبتور الأعضاء، وقد كثر الكلام في بلادنا عن بتر جزء من الجسم في عمليات الختان الشائعة للإناث والذكور، لكن نادرا ما يتكلم أحد عن بتر الخيال في الأعمال الأدبية الشائعة.
لا شك أن بتر الجسد عمل غير إنساني أو عمل إجرامي، خاصة إذا وقع على طفل أو طفلة لا تملك القوة للدفاع عن نفسها أو عن نفسه.
Página desconocida