Kashif Amin
الكاشف الأمين عن جواهر العقد الثمين
Géneros
قلت: وهذا إنما يصح ويسلم لزوم الدور إذا استدل بالآيات الغير المثيرة نحو قوله تعالى: {خالق كل شيء} [غافر:62]، فأما المثير أي المنبه للفكر والميقض له على ما في العالم من الصنع العجيب والانتظام الغريب، فيصح الاستدلال به كما ذكره الإمام القاسم عليه السلام في الأساس وقرره سائر أئمتنا عليهم السلام، وإنما الخلاف في ذلك لأبي هاشم ومن وافقه حيث ينزلون جميع السمع في هذه المسألة ونحوها مما تتوقف صحة السمع عليه كمسألة عالم وغني بمنزلة الدعوى لكنه يقال لهم هذا مسلم في غير المثير. فأما المثير فلا يسلم لأن الاستدلال به ليس من جهة كونه كلام الله تعالى بل من جهة أنه منبه ومرشد للفكر على ما ذكر فيه من الإحداث والاختلاف، ولنذكر من ذلك آيتين في شأن الليل والنهار ففيهما بلاغ وهدى وشفاء، وإلا فالقرآن مملوء من ذلك وهما قوله تعالى: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون o قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون} [القصص:71،72]، ثم قال: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [القصص:73]، ففيها من الدلالة على إثبات الصانع تعالى وتذكيرا للعباد بنعمته الجليلة ومنته الجزيلة عليهم باختلاف الليل والنهار مالا يحتاج إلى إيضاح، وآية ثالثة شاملة لجميع أصناف العالم وهي قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} [البقرة:164]، فانظر إلى هذه الآية الكريمة وتأمل ما ذكر فيها من الدلالات المفيدة والآيات العديدة على سبيل الإيجاز غير المخل والإعراض عن الإسهاب غير الممل على أن كلامه تعالى لا يمل ولا يخلق على كثرة الرد وبلاغتها في المعنى، فإنه لم يذكر فيها سبحانه الملائكة والجنة والنار ونحو ذلك مما لم يكن معلوما عند المحتج عليه بتلك الآية والمتوجه إليه الخطاب بها وهو الإنسان المكلف، لأنه لا يصح الاحتجاج إلا بما هو معلوم عند المخاطب ذاتا مجهولا دلالة، فنبه على الدلالة بذكر اختلاف الليل والنهار صراحة وغيرها ضمنا واقتضاء إن قدرنا المضاف وهو اختلاف في كل ما عطف وذكر بعد الليل والنهار، ثم ختم الآية بأبلغ ختام وهو قوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون{، فحكم لمن نظر وتفكر وعلم بذلك ثبوت الصانع الحكيم بالعقل الوافر، وأدرج تعظيم المتفكرين العارفين في الإتيان بصيغة التنكير، وسجل على من لم يتفكر ويتدبر في ذلك بعدم العقل ذما له وإخراجا له عن دائرة العقلاء، فسبحان من أحكم كلامه، ووضعه في أرفع درجات البلاغة، وأوجده ورفعه عن طوق البشر ومشابهة كلام أهل الخلاعة، ولعمر الله إن وجود القرآن على هذا الوجه الذي يعجز عن الإتيان بمثله جميع المخلوقين كاف في الدلالة على إثبات الصانع الحكيم سبحانه، فكيف وما من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا من سكون أو حركة في البر أو بحور الماء إلا وفيه أدلة ظاهرة وبراهين قاهرة تدل على وجود القدير العليم:
فيا عجبا كيف يعصى الإل .... ه أم كيف يجحده الجاحد؟
ولله في كل تحريكة .... وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية .... تدل على أنه واحد
وإذا تقرر من جميع ما مر أن العالم محدث وأن محدثه لا يصح أن يكون شيئا مما يزعمه أهل الإلحاد كما مر حكايتها عنهم وإبطالها كما مر أيضا، وثبت في العقول بأن المحدث لابد له من محدث ووجب عقلا أنه لا يجوز العدول عن المعلوم إلى الخرص الموهوم، بل يجب الاقتصار على ذلك المحقق المعلوم وجب علينا القضاء والحكم [ بأن الذي أحدثها وصورها وخالف بينها ] ليس [ هو ] إلا [ الفاعل المختار وهو ] الله الذي لا إله إلا هو [ الحي القيوم ] وأنه رب كل شيء وخالقه وهو على كل شيء قدير.
ولنختم هذه المسألة العظيمة التي هي أساس كل ما عداها من مسائل أصول الدين وفروعه وعلى مدار الجهل أو العلم بها أفول الإيمان وطلوعه بالقصيدة التي أنشأها كاتب الأحرف غفر الله زلته في سنة 1329 ه، ثم عرضتها على شيخنا صفي الإسلام وخاتمة المحققين في الكلام أسكنه الله دار السلام، فهذبها وقررها فتشرفت بنظره الثاقب وتجودت بتقريره الصائب على أنها شريفة لشرف موضوعها، وعظيمة لعظم منفوعها، وعلى المسترشد أن ينظر إلى المقال، ولا ينظر إلى من قال، فلا غنية عن ذكرها في هذا المقام لتضمنها جميع ما ذكر من الكلام، فحسن بذكرها في هذه المسألة الختام، وتجود بإدراجها في هذا الموضع التمام، وأسأل الله أن يجعلها ذخيرة عند القيام:
Página 102