بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فقد أثرى الشيخ الفاضل سليمان بن سحمان المكتبة الإسلامية بمؤلفاته الرصينة، المحتوية على العقيدة السلفية المستقيمة، الزائدة عن حوض الدين وآراء المبتدعة وأقوالهم الوخيمة.
ولقد صدق من قال:
كم سنة صاح أحيا رسم دارسها ... فصار يحكي سناها ساطع القمر
وبدعة درست واندك شامخها ... والحق يعلو وليل الجهل ذو غير
كم جاهل في الميدان حل به ... من مخلب الليث فتكا غير منجبر
ومن المحزن أن غالب كتبه قيد الوثاق، لا يظفر برؤيتها
1 / 3
إلا من عبثت به إليها الأشواق، وصار من جملة المحبين لها والعشاق.
ومن ضمن مؤلفاته التي هذه حالها، كتاب: "كشف الشبهتين عن رسالة يوسف بن شبيب والقصيدتين" وقد طبع هذا الكتاب طبعة حجرية في الهند عام ١٣٢٦ هـ، ولا أعلم أنه طبع غير هذه.
وقد تفضل الشيخ عبد العزيز بن مرشد –حفظه الله- بإعارتي هذه النسخة. فلما قرأتها قراءة متأمل أدركت أهمية الإسراع بإخراجها، وذلك لما اشتملت عليه من مباحث عقدية هامة تتلخص فيما يلي:
أولا: مسألة التكفير، ومعتقد أهل السنة والجماعة فيه ...
ثانيا: مسألة ولاء المؤمنين، والبراءة من الكافرين.
وبالإضافة إلى هذه المسائل اشتمل الكتاب على تحرير الأقوال في بعض المسائل الفقهية كجلسة الاستراحة، والصلاة في النعل، ورفع اليدين للدعاء بعد الصلاة المكتوبة، وعد التسبيح بالمسباح، كما اشتمل أيضا على بعض التعليمات الهامة للدعاة في كيفية معاملة النا س على اختلاف اتجاهاتهم عند إرادة دعوتهم ونصحهم.
وقد حداني كل ما تقدم من مباحث هامة إلى تصحيح هذه
1 / 4
النسخة المليئة بالأخطاء، وتوثيق أغلب النقول الواردة فيها، ووضع الفهارس الكاشفة عن مضمون الكتاب. ثم تقديمه إلى الطباعة في هذه الحلة التي أرجو أن تنال القبول والإعجاب من الجميع.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كتبه
الفقير إلى ربه القدير
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم
غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين
٩/٥/١٤٠٨هـ
1 / 5
تمهيد
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد..
فإنه بلغنا عن بعض الإخوان الساكنين بالساحل من أرض عُمان أن في جهتهم جهميةً وإباضيةً١ وعباد قبور متظاهرين بمذاهبهم وعقائدهم، مظهرين العداوة للإسلام وأهله. وذكروا أنه كان لديهم أناس ممن ينتسب إلى العلم والطلب يجادلون عنهم، ويوالونهم، ويفرون إليهم، ويأخذون جوائزهم وصلاتهم، ويأكلون ذبائحهم.
وهؤلاء الجهمية الذين كانوا بالساحل من أرض عمان قد شاع ذكرهم وانتشر خبرهم، وظهر أمرهم من قديم الزمان.
_________
١ في الأصل "أباضة".
1 / 7
وكذلك الإباضية١ كانوا بهذا الساحل معروفين مشتهر أمرهم لا يخفى على أحد.
وقد راسلنا بعض الإخوان في هؤلاء الذين يوالونهم، ويجادلون عنهم، فظننا أن الأمر ليس كما زعموا وأحسنا الظن بمن هناك من طلبة العلم فلم نُنعِم الإخوانَ بجواب، ولم نسمح لهم بخطاب، إلا نحضهم على الصبر على الأذى، وتحمل المشقة والبلوى، وبذل النصيحة لهم، والتلطف في الدعوة لهم، والدعاء لهم بالهداية، حتى رأينا لهم رسالة٢ طبعها لهم بعض الغزاونة أولاد عبد الله الغزنوي ﵀، ونسبوها إلى رجل يقال له: يوسف بن شبيب٣ الكويتي.
وهذا الرجل لم يكن معروفًا بالعلم والدارية، ولا بالمعرفة والرواية، بل كلامه وتركيبه يدل على جهله، وعدم معرفته. وقد قيل إن الذي ألفها غيره ممن يترشح للعلم والمعرفة.
وقد نقل هذا المؤلف عن شيخ الإسلام ابن تيميه قدّس الله روحه نقولًا يلبس بها على العوام الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام، ولا٤ دراية لهم بموارد الأفهام. ويوهمهم أن هذه النقول التي نقلها عن شيخ الإسلام ابن تيميه تدل على
_________
١ في الأصل "الأباضة".
٢ في هامش الأصل: "اسمها: نصيحة المؤمنين" سنة ١٣٢٥ هـ.
٣ في الأصل "شيب".
٤ سقطت اللام من الأصل.
1 / 8
ما ذهب إليه من عدم تكفير الجهمية الخارجين عن شريعة الإسلام، ويظن أن هذه النقول له وهي عليه لا له، كما سنبينه إن شاء١ الله تعالى، وننقض استدلاله، وما ذاك إلا أنه ليس له إلمام بهذه الصناعة، ولا متجر له في هذه البضاعة.
وقبل الجواب على كلامه وسوء مرامه نذكر من كلام غلطهم وسوء فهمهم، وعدم معرفتهم بكلام أهل العلم فنقول:
اعلم وفقك الله لطاعته أن أصل مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصائبين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام، أعني أن الله سبحانه ليس على العرش حقيقة، وإنما استوى بمعنى استولى، ونحو ذلك. أول ما ظهرت هذه المقالة من جعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه.
وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها من طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي ﷺ.
وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أرض حران،
_________
١ في الأصل: إنشاء الله.
1 / 9
وكان فيهم خلق كثير من الصابئة١ والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم. والنمرود هو ملك الصابئة الكلدانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر والنجاشي ملك الحبشة النصارى٢، فهذا اسم جنس، لا اسم علم فكانت الصابئة إلا قليلًا منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئي قد لا يكون مشركًا بل مؤمنًا بالله واليوم الآخر، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كفارًا أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل.
ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب أنه ليس إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها٣. وهم الذين بعث إبراهيم
_________
١ في الأصل: الصابئية.
٢ قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ١١/٢١٥ في ترجمة: الأخشيد محمد بن عبد الله ملك فرغانة: "وكل من ملكها كان يسمى الأخشيد كما أن من ملك اشروسية يسمى الآفشين ومن ملك خوارزم يسمى خوارزم شاه ومن ملك جرجان يسمى صوك ومن ملك أذربيجان يسمى أصبهند ومن ملك طبرستان يسمى أرسلان قاله ابن الجوزى في منتظمه قال السهيلى وكانت العرب تسمى من ملك الشام مع الجزيرة كافرا قيصر ومن ملك فارس كسرى ومن ملك اليمن تبع ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك الهند بطليموس ومن ملك مصر فرعون ومن ملك الاسكندرية المقوقس وذكر غير ذلك" اهـ.
٣ الصفات السلبية التي يثبتها هؤلاء هي: ما كان مدلولها عدم أمر لا يليق بالله =
1 / 10
الخليل ﷺ إليهم، فيكون الجعد قد أخذها من الصائبة والفلاسفة.
وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئة تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضًا فيما ذكره الإمام أحمد وغيره لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات. فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين.
ثم لما عربت الكتُب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء، مع ما ألقى الشيطانُ في قلوب الضلال ابتداء، من جنس ما ألقاها في قلوب أشباههم، ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته.
_________
= ﷿ مثل قولهم: إن الله واحد بمعنى أنه مسلوب عنه القسمة بالكم أو القول ومسلوب عنه الشريك.
والإضافية هي: التي لا يوصف الله بها على أنها صفة ثابتة له ولكن يوصف بها باعتبار إضافتها إلى الغير كقولهم عن الله: إنه مبدأ وعلة. فهو مبدأ وعلة باعتبار أن الأشياء صدرت منه لا باعتبار صفة ثابتة له هي البداء والعلية.
والمركبة منها هي: التي تكون سلبية باعتبار أنه مسلوب عنه الحدوث إضافية باعتبار أن الأشياء بعده.
1 / 11
وكلام١ الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمهم وتضليلهم انتهى من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية٢.
فإذا كان أصل هذه المقالة مقالة التعطيل والتأويل مأخوذ عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود فكيف تطيب نفس مؤمن أو عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، أو ينصب نفسه هدفًا دونهم بالمجادلة عنهم، والاعتذار لهم بأنواع من التمويه والسفسطة، والقيام في نحر من أظهر عداوتهم وبغضهم، والتنفير عنهم وعن مجالستهم، أفلا يستحي من يدعي الإسلام، ويتظاهر به بين الأنام أن يكون في جملة أعداء الله ورسوله بالذب عنهم، وتجهيل من ضللهم وأمر بهجرهم والبعد عنهم.
فإذا تبين لك ما ذكره أهل العلم في أصل مقالة هؤلاء الجهمية. فاعلم أن مذهبهم أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ويصلى له ويسجد، ولا لله في الأرض من كلام، ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه
_________
١ سقطت "و" من الأصل. وأضفتها من الحموية لشيخ الإسلام.
٢ من الحموية ١/٤٣٦ من الرسائل لشيخ الإسلام.
1 / 12
شيء، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا رفع المسيح إليه، ولا عرج برسول الله ﷺ، وأنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأجيبه، هل من مستغفر فأغفر له، وأنه لا يرى في الآخرة، ولا يقوم به فعل البتة، وأنه لا خارجَ العالم ولا داخله ولا متصلًا ولا منفصلًا ولا محايث له إلى غير ذلك من أقوالهم المتضمنة لتعطيله عن عرشه وعلوه على خلقه، وجحد أسمائه وصفاته ونعوت جلاله، وهذا هو الكفر والإلحاد الصريح نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.
1 / 13
فصل
ولنذكر من كلام الأئمة الذين هم القدوة وبهم الأسوة الذين هم ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، الذي بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلًا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحى من يطلب المقابلة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله١: وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال: لا تكفرن أحدًا بذنب، ولا تنف٢ أحدًا به من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطئك لم يكن ليصبك، ولا
_________
١كما في مجموع الفتاوى -الرسالة الحموية- ٥/٤٦.
٢في الأصل: "تنفي".
1 / 14
تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله ﷺ، ولا توال١ أحدًا دون أحد. إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر لأن الله يقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض، قال: هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل – وفي لفظ – سألت أبا حنيفة عمن يقول: أعرف ربي في السماء أم في الأرض قال: قد كفر. قال لأنه الله يقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] وعرشه فوق سبع سماوات. قال فإنه يقول على العرش استوى لكن لا يدري العرش في الأرض أم في السماء. قال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه أنه كفر الواقف الذي يقول: لا اعرف ربي في السماء أم في الأرض، فكيف يكون النافي الجاحد الذي يقول ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] قال وعرشه فوق سبع سماوات.
وبين بهذا أن قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
_________
١ في الأصل: "توالي".
1 / 15
اسْتَوَى﴾ [طه:٥] أن الله فوق السماوات فوق العرش، ثم أردف ذلك بتكفير من قال إنه على العرش استوى ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض. قال: لأنه أنكر أنه في السماء لأن الله في أعلا عليين، وأنه يدعى من أعلا لا من أسفل.
وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله في أعلا عليين، وأنه يدعى من أعلا لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلا لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحًا عنه بذلك فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر، وروى هذا اللفظ بالإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق.
قال١ وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام، سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون٢ أن يقولوا: ليس في السماء شيء.
وروى ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية" عن سعيد بن عامر الضبعي – إمام أهل البصرة علمًا ودينًا من شيوخ
_________
١ أي شيخ الإسلام في الرسالة المذكورة –الحموية- ص ٥٢/٥.
٢ في الأصل "يجادلون" وما أثبته من الحموية.
1 / 16
الإمام أحمد – أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم أشر قولًا من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على شيء.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقل إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة. ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح.
وروى ابن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام الواسطي – إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد – قال: كلمت بِشرًا المريسي وأصحاب بِشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء.
وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أن قال: ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا.
وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية" عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا
1 / 17
ليس في السماء شيء، وإن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا.
وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين. فقال رجل عندها: الله على عرشه؟ فقالت: محدود على محدود. قال الأصمعي: كفرت بهذه المقالة.
وعن عاصم بن علي بن عاصم شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما قال: ناظرت جهميًا فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء ربًا. انتهى.
وقال شيخ الإسلام أيضًا في أُثناء كلام له: والبدعة التي يُعَدَّ بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة، فإن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما قالوا: أصول البدعة اثنتان وسبعون فرقة هي أربع: الخوارج والروافض والمرجئة والقدرية، قيل لابن المبارك: فالجهمية، قال: ليس من أمة محمد ﷺ.
والجهمية نفات للصفات الذين يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة، وإن محمدًا لم يعرج به إلى الله، وإن الله لا علم له ولا قدرة ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم.
وقد قال عبد الرحمن بن مهدي هما صنفان، فأحدهما:
1 / 18
الجهمية والرافضة، فهذان الصنفان شرار أهل البدع ومنهم دخلت القرامطة والباطنية كالنصيرية والإسماعيلية، ومنهم اتصلت الإتحادية فإنهم من جنس الطائفة الفرعونية، والرافضة في هذه الأزمان مع الرفض جهمية قدرية، فإنهم ضموا إلى الرفض مذهب المعتزلة، ثم يخرجون إلى مذهب الإسماعيلية ونحوهم من أهل الزندقة والاتحاد انتهى كلامه ﵀.
فهذا كلام شيخ الإسلام الصحيح الصريح في تكفير الجهمية وإخراجهم من أمة محمد ﷺ، بخلاف ما ينقله هؤلاء المشبهون الملبسون فإنهم إنما نقلوا كلامه في عموم أهل الأهواء والبدع، لا في خصوص الجهمية، وأوهموا أنه لا يكفر الجهمية فالله المستعان.
وفي كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد قال حدثني أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان قال: سمعت أبي يقول: سمعت معاذ بن معاذ يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر.
حدثني الحسن بن عيسى مولى بن١ المبارك عن حماد بن قيراط سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: الجهمية كفار والقدرية كفار.
_________
١ في الأصل "حدثني الحسن بن عيسى وابن المبارك" والصواب ما أثبته من السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ١/١٠٣.
1 / 19
حدثني الحسن بن عيسى قال كان ابن المبارك يقول: الجهمية كفار.
قال الحسن بن١ عيسى من قول نفسه: ومن يشك في كفر الجهمية؟ انتهى.
وقال شيخنا الشيخ عبد اللطيف ﵀ في جواب سؤال ورد عليه من ساحل عمان قال فيه: ووصل إلينا السؤال الذي يورده بعض الملحدين، وهو أنه ينسب عن شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى أنه ذكر عن الإمام أحمد ﵀ أنه كان يصلي خلف الجهمية.
وجواب هذا لو سلم من أوضح الواضحات عند طلبة العلم، وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة، وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر، وعد اللالكائي رحمه الله تعالى منهم عددًا يتعذر ذكرهم في هذه الرسالة، وكذا ابن الإمام أحمد٢ في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة.
_________
١ في الأصل "قال الحسن وابن عيسى" وما أثبته من السنة لعبد الله ١/١٠٩.
٢ في الأصل "ابن الإمام عبد الله بن أحمد".
1 / 20
وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم ﵀ في كافيته عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم.
والصلاة١ خلفهم لا سيما الجمعة لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة١ خلف غيرهم.
والرواية المشهورة عن الإمام أحمد هي المنع من الصلاة١ خلفهم، وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس.
وعلى هذا القول فالجهمية في هذه الأزمنة قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما
عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورًا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد، كيف لا وَقَولُهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات٢، وشهدت به العقول السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والألوهية، ولا وجود للذات المقدسة المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدمًا لا حقيقة لوجوده،
_________
١ في الأصل "الصلواة".
٢ في الأصل "الثبوات".
1 / 21
ويعتمدون من الخيالات والشبه ما يعلم فساده بضرورة العقل وبالضرورة من دين الإسلام عند من عرفه وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات.
ولبشر المريسي١ وأمثاله من الشبه والكلام من نفي الصفات ما هو جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحادًا من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره، وعلى أن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره، وقد صرح الإمام٢ أحمد فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها.
وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كان لهم شوكة ودولة، والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم على أماكنها ومظانها، وبهذا ظهر الجواب عن السؤال الذي وصل منكم. انتهى.
_________
١ في الأصل "وبشر المريسي".
٢ في الأصل "إمام".
1 / 22
فصل
إذا تمهد واتضح لك ما قدمناه من كلام أئمة الإسلام فاعلم أن هذا الرجل ابتدأ١ كلامه في فاتحة رسالته بالحضِّ على إفراد الرب سبحانه بجميع أنواع العبادات، ومتابعة رسول الله ﷺ، وأنه لا سعادة للعبد ولا فلاح له في الدارين إلا بمتابعة هدى النبي ﷺ، وذكر أن على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين إلى آخر كلامه.
وهذا حق لو وفق له، وعمل به إن كان قد علم به، ولكنه نكب عن هذه الطريقة ولم يسر على منهج هذه الحقيقة، فوضع الكلام في غير موضعه، وحرف كلام العلماء بمفهومه الساقط، وتأويله القاسط، وقد كان من المعلوم أنه لا يجتمع في قلب عبد موالاة٢ أعداء الله ورسوله، ومحبتهم، والجدال عنهم، وحماية حماهم، مع محبة الله تعالى، ومحبة أوليائه،
_________
١ في الأصل "أن لهذا الرجل ابتداء".
٢ في الأصل: "مولات".
1 / 23