كَشْفُ المنَاهِجِ وَالتَّنَاقِيحِ في تَخْريِجِ أحَادِيثِ المَصَابِيحِ
تَأليفُ
صَدْر الدَّينِ مُحَمَّد بْنِ إبْرَاهِيم السُّلَمِيّ المُنَاوِيّ (ت: ٨٠٣ هـ)
قَدَّم له
سَمَاحَة الشيخ/ صالح بن محمَّد اللحيْدان
رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء
دِرَاسَة وتحقيق
د. مُحمَّد إِسْحَاق مُحَمَّد إبْرَاهِيم
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
المُجَلّد الأوّل
الدار العربية للموسوعات
المقدمة / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم سماحة الشيخ: صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، أنعم على عباده بنعم لا تحصى، وأجلّ ذلك ما فتح به عليهم من معارف علوم الشريعة، فهو سبحانه الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وشرف العلم فشرف به حاملوه، وتسابق الراغبون في ميراث النبوة للأخذ منه بأوفر حظٍّ وأتم نصيب، وقاموا بنشر هذا العلم، ودونوا فيه الأسفار وضربوا فيه بأسهمٍ عالية وافرة في كل مجال من مجالات المعرفة، فتميز العلماء بالعلم الذي هو زينٌ لحامليه، وإن اختلفت أصناف العلم وتفاوت شرفه، ولا شك أن أجلَّه وأشرفه ما تعلق بخدمة كتاب الله دراسةً واستنباطًا واستدلالًا وتوضيحًا وبيانًا، لأن كتاب الله أساس العلم وهو الأصل العظيم من أصول الأحكام في العقائد والمعاملات وبيان الحلال والحرام وغير ذلك.
وقد خدم علماء الإسلام كتاب الله خدمةً جليلة فائقة في بيان أحكامه وغرائب لغته وبلاغة عباراته، وكانت السنة النبوية وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع تبين مجمل القرآن وتوضح مقاصده وتضيف إليه ما أمر الله به نبيه مما ليس في القرآن، فتسابق العلماء في التأليف في السنة رواية ودراية
المقدمة / 2
تصنيفًا وجمعًا وتنقيحًا وشرحًا وانتقاءً. فكان ذلك من أعظم الأسباب في حفظ السنة نقيةً واضحةً مصونة عن عبث كل عابث وبه انغلق الباب على من يريد الاعتداء على الشريعة.
وكتاب مصابيح السنة للإمام المحدث المفسر الفقيه محيي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي من أنفع الكتب التي اعتنى مؤلفوها بحسن الجمع والانتقاء والتبويب، فصار محل اعتناء العلماء لأنهم وجدوه من أفضلها وأوفاها مادةً وأكثرها فائدةً، فاعتنى به العلماء شرحًا وتخريجًا وزيادةً وانتقادًا، وكل عالم يريد إكمال ما يراه لازمًا من إضافةٍ أو شرحٍ أو إيضاح غامض أو استدراك. ومن هؤلاء العلّامة صدر الدين أبو المعالي محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم المناوي الشافعي الذي ألف كتاب (كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح) وهو كتابٌ حقيقته أوسع من عنوانه، إذ إن عنوانه يوهم أنه مجرد تخريج لأحاديث المصابيح بينما حقيقةُ الأمر أنه تخريجٌ ونقدٌ، وإيضاحُ مبهمٍ، وشرحُ مغلقٍ ونقلٌ لما تدعو الحاجة إلى نقله من خلاف، مع ترجيح ما يترجح لديه، فهو كتابٌ جديرٌ بأن يقتنى خليقٌ بأن يرجع إليه في الأحكام والعقائد، ولا أحب أن أسهب في وصفه فإن مخبره يفوق وصفه بسطورٍ وكلمات. وقد تولى تحقيقه وإظهاره من خزائن المكتبات الخطية إلى مجال العرض والمراجعة والدراسة والاستفادة فضيلة الدكتور محمد إسحاق محمد إبراهيم أحد رجال الحديث المهتمين به، الحريصين على إبراز مكنونات السنة وتسهيل تناولها للدارسين، إذ هو أحد أساتذة هذا الفن والمعتنين به في فترة تدريسه مادة الحديث في كليات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هذه الجامعة العريقة المتفوقة في خدمة علوم الشريعة وتدريسها. وقد رغب مني كتابة مقدمة للكتاب وألح عليَّ في ذلك، ولأني أعلم أن الحديث عن كتابٍ كهذا يستدعي مراجعةً له وتتبعًا لمضامينه فاعتذرت، لكنه أكد عليَّ بأن أقوم بكتابة مقدمةٍ ولو مختصرة، ولأن ذلك نافعٌ
المقدمة / 3
لي لأراجع بعض مباحث الكتاب فاستجبت لفضيلته وقرأتُ مواضيعَ متعددة من الكتاب وراجعتُ ما عمله فضيلة الدكتور على المباحث التي قرأتها، فوجدت أنه بذل جهدًا كبيرًا وأجاد كثيرًا وتعقب المؤلف في بعض المواضع وأكمل بعض المواضع التي تستدعي تكميلًا، ورأيته قد أحسن كثيرًا، ولا شك أن عمل أي إنسان لا بد أن يجد فيه متتبعه ما ينتقده لكن قديمًا قيل: (كفى المرءَ نبلًا أن تعدَّ معايبه). ولئلا يظنَّ من يقرأ كلامي أنني كتبت ما كتبت دون قراءة، فإنني أؤكد كبير فائدة الكتاب وما قام به المحقق، وإن كنت لاحظت بعض المآخذ النحوية والإملائية وترك ذكر راوي الحديث عندما يغفله المناوي في كثيرٍ مما وقفت عليه، ولكن ذلك شيءٌ قليل أكثره يستبينه القارئ، وهي مغتفرة في الكم الكثير من الصواب والإفادة المتعددة تخريجًا واستدراكًا.
ولهذا أوصي بالاهتمام بالكتاب قراءةً ومراجعةً فإن بحوثه على قصرها غزيرة الفائدة.
أسأل الله أن يبارك بجهد الدكتور محمد إسحاق وأن ينفعه بعلمه، وأن ينفع به طلاب العلم، ويثيبه على ما عمل وأعِدهُ أن أقرأ الكتاب إن شاء الله كاملًا، وأرجو أن يكون ما لم أقرأه أسلم وأكمل مما قرأته، ومع ذلك فإن وجدتُ ملاحظةً فسوف أخبره بها وظني أنني لن أجد، فقد اعتنى واهتمَّ بإخراج الكتاب بهذه الصورة المشرقة، ولا يضيره وجود زلة قلم أو سبق رقم، والله وليُّ التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
رئيس مجلس القضاء الأعلى
صالح بن محمد اللحيدان
٦/ ٧ / ١٤٢٥ هـ
المقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له بالفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أرسله رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن سنة المصطفى هي أحد الوحيين وثاني الأصلين، إن الله وفق لها حفاظا عارفين، وجهابذة عالمين، وصيارفة ناقدين، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، دعا رسول الله ﷺ لحَمَلتها بالنضرة، فقال: "نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب مبلغ أحفظ له من سامع" (١)، ولذا شَرُف أهل الحديث بحملها، وعلت رُتَبهم بخدمتها وتبليغها (٢)، فنشطوا في القرون الثلاثة الأولى لاختراع طرقٍ متنوعة لجمعها وترتيبها، وقواعِدَ لتحملها وأدائها، وضوابط لتحديد درجات المقبول منها والمردود، فصنفت الدواوين كالصحاح والسنن والمسانيد والجوامع والمعاجم والصنفات والموطآت ...، حرصا على حفظها، وخوفا عليها من الضياع، ثم تفنن العلماء في القرون التالية يجمع السنة بطرق مختلفة فمنهم من
_________
(١) أخرجه أحمد في المسند (١/ ٤٣٧) والترمذي (٥/ ٣٤) رقم (٢٦٥٧) وابن ماجه (٢٣٢) من حديث ابن مسعود، وأطال ابن عبد البر في ذكر طرقه في جامع بيان العلم وفضله (١/ ١٧٥ - ١٩١) من رقم ١٨٤ إلى ٢٠٠، طبعة دار ابن الجوزي.
(٢) انظر: شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي ص: ٢٥ - ٢٧.
1 / 1
جمع بين الصحيحين (١) ومنهم من جمع بين الكتب الستة (٢) ومنهم من جمع أحاديث في أبواب العلم المختلفة، ولكل من هذه الكتب مزية يعرفها أهل هذا الشأن، فاشتهرت هذه الكتب بين الأنام، وانتشرت في بلاد الإسلام، وعظم الانتفاع بها، وحرص طلاب العلم على تحصيلها، ومن هؤلاء الإمام البغوي ﵀ فجمع كتاب "المصابيح"، من مصادر مختلفة.
ولقد نال كتاب البغوي هذا استحسان أكثر من جاء بعده لحسن جمعه وترتيبه، كما وصفه الصدر المناوي بقوله: "فإن أجمعَ المصنفات المختصرات في الأخبار النبوية، وأحسن المؤلفات الجامعات للآثار المحمدية كتابُ "المصابيح" وهو الكتاب الذي عكف عليه المتعبدون، واشتغل بتدريسه الأئمة المعتبرون، وأقر بفضله وتقديمه الفقهاء والمحدثون، وقال بتميزه الموافقون والمخالفون" (٣).
والأحاديث التي وردت في كتاب المصابيح قد رواها البغوي بأسانيده المتصلة إلى النبي ﷺ، ولكنه حذف أسانيدها طلبًا للاختصار، وعوض عن هذا فحكم على كثير من الأحاديث بتبيين المقبول منها والمردود وعلق بعض رواتها فذكر ما يتعلق بهم من جرح، فاحتل كتاب "المصابيح" مرتبة عالية من بين كتب السنة، وأقبل العلماء عليه إقبالًا شديدًا، فألفوا حوله الكتب الكثيرة ما بين شرح وتخريج، أو جمع بين الشرح والتخريج.
_________
(١) منها الجمع بين الصحيحين للحميدي (ت ٤٨٨ هـ) بتحقيق د. علي البواب، والجمع بين الصحيحين للإشبيلي (ت ٥٨١ هـ) وكذلك للصاغاني (ت ٦٥٠ هـ) مطبوع.
(٢) ومنها: أنوار المصباح في الجمع بين الكتب الستة الصحاح للتجيبي (ت ٦٤٦ هـ) والتجريد للصحاح والسنن لرزين العبدري (٥٣٥ هـ)، وتابعه ابن الأثير (ت ٦٠٦ هـ) في كتابه: جامع الأصول .... طبع في ١١ مجلدا. وغيرها ..
(٣) انظر: مقدمة كتابنا هذا (ص: ٣٩).
1 / 2
ومن أبرزها كتاب "كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح" للحافظ الصدر محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم السلمي المناوي (ت ٨٠٣هـ) -شيخ الحافظ ابن حجر- رحمهما الله.
وقد حاول المؤلف ﵀ أن يُسهم في خدمة هذا الكتاب النفيس، ويقدم شيئًا يتميز به عمله، فخدم الكتاب خدمة جُلَّى تمثلت في تخريج أحاديثه وعزوها إلى الكتب التي خرجتها، فاستوعب ذلك كله، فعزى كل حديث إلى من أخرجه، ولم يكتف بالعزو بل حدد المكان الذي ذكره مخرِّجه فيه وعدّد أماكن تخريجه في الكتاب إن ذكر في أكثر من مكان، وقد بذل الجهد في تحديد لفظ الروايات، وحدد من روى المتن كله أو بعضه أو زاد فيه أو نقص محددا ذلك بدقة، وينقل الحكم على الحديث إن كان هناك حكم، ويتعقب ذلك إن كان الحكم يحتاج إلى إيضاح أو استدراك أو تعليق، وإن كان في سند الرواية كلام في أحد رواته ذكر ذلك، وقد يشير إلى علة الحديث إن كان فيه علة، ويبين تلك العلة باختصار، ويحكم على الرواة جرحا وتعديلا، ولم يقتصر كلامه على الأسانيد والحكم على الحديث، بل حاول جاهدا أن يشرح بعض الأحاديث مهتما بشرح الألفاظ وتبيين معاني بعض العبارات، وكثيرًا ما يهتم بتوضيح العبارات المغلقة فيوضحها، وينقل عن الأئمة ما يراه ملائما لذلك، ويزيد بعض النقول شرحا إن رأى أن ما نقله يحتاج إلى شرح.
وإذا مرت عبارات يفيد ظاهرها التعارض، حاول الجمع والتوفيق أو الترجيح والبيان، كل ذلك بأسلوب متين دقة واختصار، وقد يبين أوهاما وقعت لبعض العلماء، ويتبع ذلك كله بفوائد ومسائل مهمة.
ولما لهذا كله من الأهمية والفائدة رأيت خدمةَ هذا الكتاب وتقديمَه للطبع، فهو لم يُطبع قبل ذلك.
وقد بذلت جهدا كبيرا في طباعته وإِخراجه على الشكل الذي أرجو أن يحوز رضى القاريء، وقد وضحت تفصيل عملي هذا فيما سيأتي مفصلًا.
1 / 3
ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر الجزيل إلى سماحة الوالد الشيخ/ صالح بن محمد اللحيدان/ رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء -حفظه الله تعالى بخير وعافية، وأمد في عمره وأعانه وسدد خطاه وأجزل له الأجر والمثوبة- الذي تجشم عناء الاطلاع على هذا الكتاب وقراءة جزء كبير منه على كثرة مشاغله، وضيق أوقاته، ولم يبخل علي بآرائه السديدة، وتوجيهاته الرشيدة، ثم تقديمه لهذا الكتاب، فجزاه الله خير الجزاء، ووفقه لكل خير.
وأثني بشكر والديَّ حفظهما الله وأمدَّ في عمرهما وبارك لهما في أوقاتهما، فلهما عليّ فضلٌ، أسأل الله أن يوفقني لبرهما ورعايتهما.
كما أتوجه بالشكر إلى كل من أعانني من مشايخي وإخواني وزملائي سائلا المولى ﷿ أن يجزيهم من عنده خير الجزاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فهذا جهد المقل، فلقد أمضيت في إخراجه خمس سنوات كاملات من عمري، وهأنذا أضعه أمام طلاب العلم رجاء أن يستفيدوا منه، وراجيا من الله القبول.
وأسأل الله العلي العظيم، رب العرش الكريم أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل وأن ينفعني بما علمني، وأن يرزقني علمًا نافعًا وأن يمن علي بالاستقامة والثبات على الدين حتى ألقاه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد إسحاق محمد إبراهيم
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الرياض
1 / 4
ترجمة المؤلف (١)
اسمه ونسبه:
هو: محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن السلمى المناوي (٢) ثم القاهري، صدر الدين أبو المعالي الشافعي القاضي.
ولادته ونشأته:
ولد في رمضان سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة وأبوه حينئذ ينوب في القضاء عن عز الدين ابن جماعة، وأمه بنت قاضي القضاة زين الدين عمر البسطامي، فنشأ في حجر السعادة، وحفظ القرآن الكريم والتنبيه في الفقه وغيره.
شيوخه:
سمع من: عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد المقدسي بالقاهرة، وأبي الفتح محمد ابن محمد بن إبراهيم الميدومي، وحسن بن السديد الإربلي، وعبد الله بن خليل المكي، وعبد الرحمن بن عبد الهادي، وعبد الله بن قيم الضيائية، وأجاز له أبو الحرم محمد ابن محمد القلانسي الحنبلي (ت ٧٦٥هـ)، ومظفر بن النحاس، والقطرواني، وابن الأكرم، قال الحافظ ابن حجر: يجمعهم مشيخته التي خرجها له أبو زرعة -يعني: ابن شيخه العراقي واسمه أحمد (ت:٨٢٦ هـ) في خمسة أجزاء وسمعناها عليه (٣).
_________
(١) مصادر ترجمته:
إنباء الغمر بأبناء العمر (٤/ ٣١٥ - ٣١٧). والضوء اللامع (٦/ ٢٤٩). والنجوم الزاهرة (١٣/ ٢٥).
ووجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام للسخاوي (١/ ٣٥٤) والسلوك للمقريزي (٣/ ٣/ ١٠٧٣).
وطبقات قاضي شهبة (٤/ ٥٩) والدليل الشافي على المنهل الصافي لابن تغري بردي (٢/ ٥٧). وذيل التقييد للفاسي (١/ ١٤٨ - ١٥١).
(٢) المناوي: نسبة لمنية القائد فضل بن صلح في أول الصعيد، بينها وبين مدينة مصر يومان انظر: معجم البلدان (٥/ ٢١٩).
(٣) إنباء الغمر (٤/ ٣١٥)، والضوء اللامع (٦/ ٢٤٩).
1 / 5
أهم تلاميذه المشهورين:
سمع منه الحافظ ابن حجر، وأبو الفتح ابن أبي بكر بن الحسين المراغي، وأبو زرعة العراقي -ولي الدين أحمد ابن الحافظ العراقي-.
قال السخاوي: أخذ عنه الأكابر، وقال: حدث ودرس وأفتى، روى لنا عنه الجم الغفير.
أعماله:
درّس، وأفتى، وولي إفتاء دار العدل، ودرس "بالشيخونية" و"المنصورية" بالقاهرة والسكرية بمصر وغير ذلك. وولي قضاء الديار المصرية أربع مرات:
أولها: أول ذي القعدة سنة ٧٩١ هـ.
ثانيها: بعد صرف، عماد الدين الكركي في ثاني المحرم سنة ٧٩٥ إلى أثناء ربيع الآخر سنة ٧٩٦ هـ.
ثالثها: بعد زين الدين أبي البقاء سنة ٧٩٧ هـ في جمادى الأولى إلى سنة ٧٩٩ هـ في رجب.
رابعها: في رجب سنة ٨٠١ هـ حتى أسره بدمشق أصحاب تيمور لنك سنة ٨٠٣ هـ.
ودرس كذلك بجامع طولون والشافعي وغيرهما، وقام بعدد من الوظائف المضافة للقضاء.
ومات الملك الظاهر برقوق في أثناء عمله بالقضاء آخر مرة، وكان يهابه فأمن على نفسه لكونه كان لا يطمئن إليه.
ثناء العلماء عليه:
قال تلميذه ابن حجر: كان كثير التودد إلى الناس معظمًا عند الخاص والعام محببًا إليهم لكثرة تودده وإحسانه، وكان قبل الاستقلال بالقضاء يسلك طريق ابن جماعة في التعاظم، فلما استقل لان جانبه كثيرًا، وكانت له عناية بتحصيل الكتب النفيسة على طريقة ابن جماعة فحصل منها شيئًا كثيرًا.
1 / 6
وقال الفاسي: وكان ذا هيبة عظيمة ونزاهة وقوة نفس وحشمة ودنيا متسعة.
قال السخاوي: وكان ذا عناية بتحصيل الكتب النفيسة، زائد الكرم، عظيم الرئاسة.
مؤلفاته:
١ - "كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح".
قال الحافظ ابن حجر: وخرّج أحاديث المصابيح وتكلم على مواضع منه، حدث به، وسمعت قطعة منه.
٢ - وله حاشية على "جامع المختصرات".
٣ - وله تأليف في فرائد الفوائد، ذكره في كتابه هذا تحت حديث رقم: (١٤٧٢).
وفاته:
توفي سنة ٨٥٣ هـ في شوال، وذلك لما سافر الناصر فرج إلى البلاد الشامية، لقتال الطاغية تيمور لنك، فكان مؤلفنا ممن برز معه، فأسره اللنكية حتى مضوا به أسيرًا إلى صوب العراق فلما جاوزوا نهر الفرات خاض الأمير في النهر هو وأتباعه لأجل ازدحام غيرهم على القنطرة، فغرق القاضي وهو في القيد، فمات غريقًا في نهر الزاب (١) بالفرات عند قنطرة باشا.
والعجب أنه كان شديد الخوف من ركوب البحر، لمنام رآه أو رؤي له، بحيث لم يكن يركب نهر النيل إلا نادرًا. وشغر القضاء بعده نحو شهرين رجاء تخليصه من الأسر.
_________
(١) الزاب: نهران أحدهما يسمى الزاب الصغير والآخر يسمى الزاب الكبير، وهما من روافد دجلة، ومخرجهما قرب جبال أذربيجان، (انظر المسالك والممالك للكرخي ٥٤) وسمي بنهر الزاب نسبة إلى زاب ملك من قدماء ملوك الفرس، حفر عدة أنهر بالعراق، فسميت باسمه، معجم البلدان (٣/ ١٢٣).
1 / 7
التعريف بكتاب: "المصابيح"
حظي كتاب "المصابيح" بمكانة عظيمة، ولقي عناية خاصة من مؤلفه فقد أخلص النية فيه، وبذل فيه من الجهد والعناية ما جعله مقبولًا لدى الخاص والعام، فاستخرج أحاديثه من كتب متفرقة ثم رتب هذه الأحاديث على الأبواب بحيث استوعب الأبواب كلها، كالعقائد، والأحكام، والسير، والآداب، والرقاق، والفتن، وأشراط الساعة، والمناقب، والفضائل، ولم يفته سوى أبواب التفسير، والمغازي.
منهج البغوي في "المصابيح"
بيّن البغوي طريقته في مقدمة كتابه وأوضح بعض جوانب منهجه فيه وهي كما يلي:
١ - السبب الباعث على تأليف الكتاب، وهو أن يكون عونًا للمنقطعين للعبادة.
٢ - عدم ذكره للأسانيد خوف الإطالة، واعتمادًا على نقل الأئمة، وقد يسمي الصحابي أحيانًا لمعنى دعا إليه.
٣ - تبيين اصطلاحه في تقسيم الأحاديث إلى صحاح: وهي ما أخرجه الشيخان، أو أحدهما، وحسان: وهي ما أخرجه أبو داود، والترمذي، وغيرهما من الأئمة.
٤ - إِن أحاديث قسم الحسان أكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل، غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين في علو الدرجة من صحة الإسناد، إذ أكثر الأحكام ثبتت بطريق حسن.
٥ - اشتراط أن يشير إلى الأحاديت الضعيفة، والغريبة.
٦ - اشتراط عدم ذكر المنكر والموضوع.
٧ - إِن المقصود بهذا الكتاب هو جمع أحاديث النبي ﷺ المرفوعة، دون غيرها، من آثار الصحابة والتابعين.
1 / 8
ترتيبه:
رتب البغوي كتابه على ترتيب كتب الجوامع من حيث العموم. حيث افتتح كتابه بكتاب الإيمان، ثم العلم، ثم بدأ بكتب الأحكام من عبادات ومعاملات، وختمه بكتاب الآداب والفتن وأحوال القيامة والفضائل والمناقب.
وهذا الترتيب هو ما تشتمل عليه كتب الجوامع في الغالب، ولم يخالف إلا بتقديم كتاب فضائل القرآن والدعوات حيث جعلهما بعد الصيام وقبل المناسك وسار في كتب الأحكام على طريقة الشافعية من حيت العموم، حيث بدأ بالعبادات، ثم بالبيوع وفروعاته، ثم النكاح وأحكامه، ثم العتق والديات، والحدود، فالجهاد، ثم الأطعمة ...
ومن المعلوم أن كتب المذاهب تختلف في هذا الأمر، خاصة في إدخال بعض الأبواب في العبادات فالحنابلة والمالكية يدخلون الجهاد ضمن العبادات.
بينما الحنفية والشافعية يعدونه في المعاملات، كذلك تختلف كتب المذاهب في ترتيب أبواب المعاملات المحضة فالأحناف والمالكية يضعون النكاح بين العبادات والمعاملات، بينما يضع الحنابلة والشافعية البيوع ثم النكاح، وهكذا (١).
ثم قسم كل كتاب إلى أبواب، وكل باب إلى قسمين: الصحاح، والحسان.
وأورد تحت كل قسم طائفة من الأحاديث تغطّي الباب على طريقته.
وهو يترجم لكل باب بترجمة مشهورة مختصرة وقد يهمل ذكر الترجمة ويكتفي بذكر "باب" هكذا مهملًا أو "فصل" كما فعل في كتاب فضائل القرآن وهذا قليل جدًّا.
إعجاب العلماء بهذا الترتيب
لقد أثنى العلماء على هذا الترتيب فقد قال محمد بن عتيق الغرناطي (ت ٦٤٦ هـ) بعد أن ذكر طائفة من كتب الحديث: والمصابيح أحسن ترتيبًا، فإنه وضع دلائل
_________
(١) انظر ترتيب الموضوعات الفقهية ومناسباته ٩.
1 / 9
الأحكام على نهج يستحسنه الفقيه، فوضع الترغيب والترهيب على ما يقتضيه العلم، ولو فكر أحد في تغيير باب عن موضعه لم يجد له موضعًا أنسب مما اقتضى رأيه (١).
تقسيم البغوي لأحاديث كتابه
قسم البغوي أحاديث كتابه إلى قسمين: صحاح وحسان، فبعد كل ترجمة يذكر بابا يعنونه بقوله: ومن الصحاح، ثم يورد تحته ما في الصحيحين ثم بعد إيراده لأحاديثهما تحت هذا العنوان، يتبعه بعنوان آخر: ومن الحسان.
وقد نص على ذلك في مقدمة كتابه، فقال: وتجد أحاديث كل باب منها تنقسم إلى صحاح، وحسان (٢) أعني بالصحاح: ما أخرجه الشيخان، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري -رحمهما الله- في جامعهما، أو أحدهما، وأعني بالحسان: ما أورده أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، وغيرهما من الأئمة في تصانيفهم ﵏ وأكثرها صحاح بنقل العدل عن العدل، غير أنها لم تبلغ غاية شرط الشيخين في علو الدرجة، من صحة الإسناد، إذ أكثر الأحكام ثبوتها بطريق حسن، وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشرت إليه، وأعرضت عن ذكر ما كان منكرًا، أو موضوعًا.
وقد انتقد البغوي في تقسيم أحاديث الكتاب إلى صحاح وحسان، وفق الاصطلاح الذي اتخذه:
فقال ابن الصلاح (٣): ما صار إليه صاحب المصابيح من تقسيم أحاديثه إلى نوعين: الصحاح والحسان، مريدًا بالصحاح ما ورد في أحد الصحيحين .. فهذا اصطلاح لا يعرف، وليس الحسن عند أهل الحديث عبارة عن ذلك.
_________
(١) البضاعة المرجاة ٥٨.
(٢) المصابيح ١/ ١١٠، ٢/ ٣٠٥.
(٣) مقدمة ابن الصلاح (٣٧).
1 / 10
وقال النووي (١): وأما تقسيم البغوي أحاديث المصابيح مريدًا بالصحاح ما في الصحيحين، وبالحسان ما في السنن، فليس بصواب، لأن في السنن: الصحيح والحسن والضعيف والمنكر.
وممن ردّه أيضًا: ابن كثير (٢) والطيبي (٣) والعراقي (٤) وغيرهم.
وفي المقابل قبل بعض العلماء هذا الاصطلاح ودافعوا عنه، فقال التبريزي (٥): ولا أزال أتعجب من الشيخين -يعني: ابن الصلاح والنووي- في اعتراضهما على البغوي، مع أن المقرر أنه لا مشاحة في الاصطلاح. وقد أيد التبريزي على قوله هذا الحافظ ابن حجر (٦) فقال: ومما يشهد لصحة كونه أراد بقوله الحسان اصطلاحا خاصا له، أن يقول في مواضع من قسم الحسان: هذا صحيح تارة، وهذا ضعيف تارة، بحسب ما يظهر له ذلك. وقال الكافيجي (٧): ثم إن تقسيم البغوي حديث المصابيح إلى صحاح، وحسان، تقسيم يستحق القبول لا الرد، وإن كان مخالفا لما اشتهر عندهم، فإن ذلك اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح. وهذا هو الراجح.
مراد البغوي بالأحاديث الصحاح والحسان
قال البغوي (٨): فالصحاح منها ما أورده الشيخان البخاري ومسلم في كتابيهما الصحيحين، وشرطهما مراعاة الدرجة العليا في الصحة، وهو أن يكون الحديث يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن النبي ﷺ، ولذلك الراوي الصحابي ثقتان من التابعين، ثم يرويه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة، وله راويان من
_________
(١) التقريب والتيسير (٣٠).
(٢) الباعث الحثيث (٢١).
(٣) الخلاصة (٤٦).
(٤) التقييد والإيضاح (٥٨).
(٥) انظر: تدريب الراوي (١/ ١٨٠).
(٦) قاله بعد أن ذكر قول التبريزي انظر: النكت (١/ ٤٤٥ - ٤٤٦).
(٧) المختصر في علم الأثر (١١٤) وانظر أيضا: المقنع في علوم الحديث (١/ ٩٧).
(٨) المصابيح ١/ ٣٠٥، وقد أورده في آخر المجلد الأول بتجزئته هو أي بعد فراغه من كتاب المناسك.
1 / 11
أتباع التابعين ثم يرويه عنه من أتباع التابعين، الحافظ المتقن المشهور، وله رواة من الطبقة الرابعة.
وأردت بالحسان ما لم يخرجاها في كتابيهما ..... ثم منها ما يكون صحيحًا بنقل العدل عن العدل إلى الصحابي، ولكن لا يكون للصحابي إلا راو واحد بنقل العدل عن العدل أو إلى التابعي ولا يكون للتابعي، إلا راو واحد ثم قال: مستدلًا لكلامه هذا فكان مسلم يخرج الصحيح على ثلاثة أقسام في الدرجة، فلما فرغ من القسم الأول أدركته المنية ﵀.
رأي العلماء في هذا
يمكن تلخيص كلام البغوي بالآتي: أنه يقسم الصحيح إلى قسمين:
١ - ما كان رواته مشهورين بالرواية من الصحابي فمن دونه، ويكون لكل راو منهم راويان، مع اشتراط الثقة، والإتقان، وهذا هو ما أخرجه البخاري ومسلم في كتابيهما، وأورده البغوي في قسم الصحاح، وهو أعلى درجات الصحيح.
٢ - ما هو دون ذلك، وهو ما يكون بنقل العدل عن العدل إلى الصحابي، لكن لا يكون للراوي إلا راو واحد، أو في رواته من ليس له إلا راو واحد.
وهذا النوع من الصحيح جعله البغوي في قسم الحسان لأنه دون الأول في القوة في اجتهده ونظره.
أقول: ليس صنيع البغوي في القسم الأول -غريبًا- بل هو ما نص عليه الحاكم في كتابيه "المدخل" والمعرفة (١) والميانجي (٢) والجويني (٣) والبيهقي (٤) وابن الأثير (٥).
_________
(١) المدخل إلى الإكليل ٢٩، معرفة علوم الحديث ٦٢.
(٢) ما لا يسع المحدث جهله ص: ٢٤.
(٣) النكت لابن حجر (١/ ٢٣٨).
(٤) السنن الكبرى للبيهقي (٤/ ١٠٥) قال البيهقي في كتاب الزكاة عند ذكر حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: أخرجه أبو داود، فأما البخاري ومسلم فإنهما لم يخرجاه، جريا على عادتهما في أن الصحابي والتابعي إذا لم يكن له إلا راو واحد لم يخرجا حديثه في الصحيحين.
(٥) جامع الأصول (١/ ١٦٠).
1 / 12
والبيضاوي (١).
ولكن الحافظ أبو بكر الحازمي في "شروط الأئمة الخمسة" (٢) رد هذا الرأي وقال: إِن اختيار البخاري ومسلم إخراج الحديث عن عدلين إلى النبي ﷺ فهذا غير صحيح طردًا وعكسًا، وقال: لو استقرأ الكتاب -أي كتاب البخاري- حق استقرائه لوجد جملة من الكتاب ناقضة عليه دعواه.
وقد دافع ابن الأثير عن دعوى الحاكم هذه، وقال عنه: إنه كان عالمًا بهذا الفن، خبيرًا بغوامضه، عارفًا بأسراره، وما قال هذا القول، وحكم على الكتابين بهذا الحكم، إلا بعد التفتيش والاختبار، والتيقن لما حكم به عليهما، ثم قال: على أن قول الحاكم له تأويلان:
أحدهما: أن يكون الحديث قد رواه عن الصحابي المشهور بالرواية راويان، ورواه عن ذينك الراويين أربعة، عن كل راو راويان، وكذلك إلى البخاري ومسلم.
والثاني: أن يكون للصحابي راويان، ويروي الحديث عنه أحدهما، ثم يكون لهذا الراوي راويان، ويروي الحديث عنه أحدهما، وكذلك لكل واحد ممن يروي ذلك الحديث راويان، فيكون الغرض من هذا الشرط تزكية الرواة، واشتهار ذلك الحديث بصدوره عن قوم مشهورين بالحديث. والنقل عن المشهوربن بالحديث والرواة، لا أنه صادر عن غير مشهور بالرواية، والرواة، والأصحاب (٣).
وأشار إلى ذلك البيهقي بقوله (٤): إن البخاري ومسلمًا لم يخرجا في الصحيحين حديث الصحابي أو التابعي إذا لم يكن له إلا راو واحد.
_________
(١) شرح البيضاوي للمصابيح (٣/ ١).
(٢) ص ٣٧. وقال: وقد صرح بنحو ما قلت من هو أمكن منه في الحديث وهو أبو حاتم ابن حبان البستي.
(٣) جامع الأصول (١/ ١٦٢).
(٤) السنن الكبرى (٤/ ١٠٥).
1 / 13
وذكر مثله أبو علي الجياني كما نقله عنه القاضي عياض (١).
وقال أبو عبد الله ابن المواق متعقبًا الجياني وعياضا بأن هذا الحمل ليس بينًا ولم يصرحا به (٢).
والذي يظهر -والله أعلم- أن الشيخين لم يصرحا بما سبق ذكره، وواقع كتابيهما لا يؤيد ذلك لأن أول حديث في صحيح البخاري وهو "إنما الأعمال بالنيات" وآخر حديث فيه "كلمتان خفيفتان" وهما فردان غريبان، باعتبار المخرج، بل في الصحيحين ما يزيد على مائتي حديث من الغرائب مما انفرد به الراوي في طبقة من الطبقات.
إذًا اشتراط العدد لرواية الحديث عن الراوي أو للرواية المطلقة عنه في أحاديث الصحيحين ليست صحيحة، ويؤيد ما قلت وجود بعض الصحابة الذين أخرج الشيخان لهم ممن ليس له إلا راو واحد (٣).
تسمية البغوي لكتابه
إن البغوي لم يذكر تسمية مستقلة لكتابه هذا، إنما وصف أحاديثه بقوله:
أما بعد: فهذه ألفاظ صدرت عن صدر النبوة، وسنن سارت عن معدن الرسالة، وأحاديث جاءت عن سيد المرسلين، وخاتم النبيين، هن مصابيح الدجى، خرجت من مشكاة التقوى ........
وهذا مجرد وصف، وليست تسمية، ولذا اختلفت أقوال العلماء في تسميته: فأكثر العلماء اقتصروا على تسميته بالمصابيح منهم:
ابن خلكان، وابن الصلاح، والطيبي، وأبو الفداء، والنووي، والذهبي، وزين العرب، والصفدي، والعلائي، والتاج السبكي، والمؤلف، وابن حجر،
_________
(١) تدريب الراوي (١/ ١٣٥).
(٢) تدريب الراوي (١/ ١٣٥).
(٣) مثل حديث مرداس الأسلمي عند البخاري (٦٤٣٤) وحديث المسيب بن حزن في الصحيحين البخاري (١٣٦٠) وفي مسلم (٢٤) مع أنه ليس لهما إلا راو واحد.
1 / 14
والسيوطي، وابن العماد، والملا علي القاري، وطاش كبري زاده (١)، وسماه السخاوي (٢) والتبريزي (٣): "المصابيح في الحديث".
وسماه الكتاني (٤) "مصباح السنة".
وقد طبع قديمًا في بولاق، ثم طبع حديثًا طبعةً جديدةً محققة باسم: مصابيح السنة، واشتهر بهذا الاسم حتى أصبح عَلَمًا عليه، عند أهل العصر (٥)، وقد يطلق عليه "المصابيح" اختصارًا.
مكانة "المصابيح" العلمية
لقد رزق كتاب "المصابيح" حسن القبول من العلماء، فأثنوا عليه وشهدوا بحسن ترتيبه وشمول مادته، وأقبلوا عليه، وقبلوه قبولًا حسنًا، ويبدو أنه رزق القبول لحسن قصد مؤلفه وصدق نيته.
قال التبريزي: وكان كتاب المصابيح أجمع كتاب صنف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها (٦).
وقال المناوي: فإن أجمع المصنفات المختصرات في الأخبار النبوية، وأحسن المؤلفات الجامعات المحمدية، كتاب المصابيح (٧).
وقال الجشتي: طبقت شهرته في الآفاق، واتخذت الأعاجم قراءته ديدنها،
_________
(١) انظر على الترتيب: وفيات الأعيان (٢/ ١٣٦)، علوم الحديث ٣٧، الكاشف عن حقائق السنن (١/ ٨٤)، المختصر في أخبار البشر (٢/ ٢٢٩)، التقريب والتيسير ٣٠، سير أعلام النبلاء (١٩/ ٤٤٠)، الوافي بالوفيات (١٣/ ٦٣)، النقد الصحيح ٢٥، طبقات الشافعية الكبرى (٤/ ٢١٤)، هداية الرواة من طبقات الحفاظ ٤٥٧، شذرات الذهب (٤/ ٤٩)، المرقاة (١/ ١٠)، مفتاح السعادة (١/ ١٨٩)، البضاعة المزجاة ٥٨.
(٢) فتح الغيث (١/ ٨١).
(٣) شرح مشكلات المصابيح ق ١.
(٤) الرسالة المستطرفة ١٣٣.
(٥) انظر: الحديث والمحدثون ٤٣١، علوم الحديث لصبحي الصالح ١٦١.
(٦) المشكاة (١/ ٣).
(٧) كشف المناهج (١/ ٥).
1 / 15
وظنوا أن من قرأه بإمعان، فقد وصل إلى درجة المحدثين.
وقال أيضًا: ولا شك أنه لم ير مثله من حيث تنوع أبوابه وجودة ترتيبه، وغزارة مادته في تآليف معاصريه، وكان كتاب المصابيح للقراء كالمثل السائر القائل: "كل الصيد في جوف الفرا" فقد تداولته أيدي النظار، وانثال عليه علماء الأمصار، مطالعة وقراءة، وإقراء، وتلخيصًا، وشرحًا، وتعليقًا، فاشتهر في الأقطار كالشمس في رابعة النهار (١).
وقال الذهبي: بورك لمؤلفه في تصانيفه، ورزق فيها القبول التام، لحسن قصده وصدق نيته (٢).
عناية العلماء بالمصابيح
لقد سبق أن كتاب المصابيح طبقت شهرته في الآفاق، واتخذت الأعاجم قراءته ديدنها، وظنوا أن من قرأه بإمعان فقد وصل إلى درجة المحدثين، ولا شك أنه لم ير مثله من حيث تنوع أبوابه وجودة ترتيبه، وغزارة مادته.
ولعل من أسباب قبول العلماء لكتابه هذا هو حسن قصد مؤلفه ونيته الصالحة في تأليفه.
فلهذا اعتنى العلماء بكتاب المصابيح تخريجًا وشرحًا وتعليقًا واختصارًا وهذه عناية لم تحصل إلا لكتب معدودة من كتب الحدبث، مما يدل على المكانة التي تبوأها هذا الكتاب بين كتب العلم.
أولًا: كتب تخريج أحاديث المصابيح:
١ - كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح "وهو كتابنا هذا" وسيأتي الكلام عنه مفصلًا.
_________
(١) البضاعة المزجاة ص ٥٩.
(٢) سير أعلام النبلاء (١٩/ ٤٤١).
1 / 16