قرنفلة
إسماعيل الشيخ
زينب دياب
خالد صفوان
قرنفلة
إسماعيل الشيخ
زينب دياب
خالد صفوان
الكرنك
الكرنك
Página desconocida
تأليف
نجيب محفوظ
قرنفلة
اهتديت إلى مقهى الكرنك مصادفة؛ ذهبت يوما إلى شارع المهدي لإصلاح ساعتي. تطلب الإصلاح بضع ساعات كان علي أن أنتظرها. قررت مهادنة الوقت في مشاهدة الساعات والحلي والتحف التي تعرضها الدكاكين على الصفين. عثرت على المقهى في تنقلي فقصدته. ومنذ تلك الساعة صار مجلسي المفضل رغم صغره وانزوائه في شارع جانبي. الحق أني ترددت قليلا بادئ الأمر أمام مدخله، حتى لمحت فوق كرسي الإدارة امرأة؛ امرأة دانية الشيخوخة ولكنها محافظة على أثر جمال مندثر. حركت قسماتها الدقيقة الواضحة جذور ذاكرتي فتفجرت ينابيع الذكريات. سمعت عزفا وطبلا، شممت بخورا، رأيت جسدا يتموج. راقصة، نجمة عماد الدين، الراقصة قرنفلة، حلم الأربعينيات الوردي، قرنفلة. هكذا مرقت إلى الكرنك بقوة سحر مبهمة وفؤاد طروب، من أجل شخص لم أمر بباله يوما. لم تقم بيننا علاقة من أي نوع كان؛ لعاطفة أو مصلحة أو حتى مجاملة، كانت نجمة وكنت أحد المعاصرين. لم تترك نظراتي المعجبة على جسدها العبقري أثرا أي أثر، ولا كان لي حق التحية العابرة. من مجلسي أجلت البصر فأحاط بالمكان. كأنه حجرة كبيرة ليس إلا ولكنه أنيق رشيق، مورق الجدران، جديد الكراسي والموائد، متعدد المرايا، ملون المصابيح، نظيف الأواني، يا له من مجلس ذي جاذبية لا تقاوم! ونظرت إلى قرنفلة طويلا، كلما وجدت فرصة. انطفأ سحر الأنوثة وجف رونق الشباب، ولكن حلت محلهما روعة غامضة وأسى مؤثر، ما زالت نحيلة رشيقة يوحي عودها بالنشاط والحيوية. وثمة قوة مهذبة مكتسبة من التجربة والعمل، أما خفة روحها فآسرة نفاذة، تحرك نظرتها الشاملة الساقي والجرسون وعامل النظافة، وترعى الرواد المعدودين - كأنهم لصغر المكان أسرة واحدة - بمودة وألفة. يوجد ثلاثة شيوخ لعلهم من أصحاب المعاشات، وكهل، ومجموعة من الشبان بينهم فتاة حسناء؛ لذلك شعرت بالغربة وبأنني دخيل، رغم نشوتي، وقلت اللهم إني أحب هذا المكان، القهوة فاخرة، والماء نقي عذب، والفنجان والكوب آيتان في النظافة. عذوبة قرنفلة، وقار الشيوخ، حيوية الشباب، جمال الفتاة، وموقع المقهى في وسط المدينة الكبيرة، يصلح استراحة لجوال مثلي. وثمة عناق حار بين الماضي والحاضر، الماضي العذب والحاضر المجيد، ثم سحر المصادفة المجهولة. فما إن تعطلت ساعتي حتى وقعت في غرام متعدد الأبعاد، وإذن فليكن الكرنك مستقري كلما سمح الزمان.
وحدث ما اعتبرته مفاجأة سارة، بدا أن قرنفلة أرادت مجاملتي بصفتي زبونا جديدا فقامت من مجلسها وجاءتني تخطر في بنطلون كحلي وبلوزة بيضاء، وقفت أمامي وقالت: شرفت.
تصافحنا وأنا أشكر لها مجاملتها فسألتني: هل أعجبتك القهوة؟
فقلت بصدق: جدا، بن ممتاز حقا.
فابتسمت بسرور، ورنت إلي مليا ثم قالت: يخيل إلي أنك تذكرتني؟ - فعلا، من ينسى قرنفلة؟ - ولكن هل تذكرت دوري الحقيقي في الفن؟ - أجل، كنت أول من جدد في الرقص الشرقي. - هل سمعت أو قرأت أحدا ينوه بذلك؟
فقلت بارتباك: تصاب الأمم أحيانا بفقدان الذاكرة، ولكن ذلك لا يدوم إلى الأبد. - كلام جميل ولا شيء وراء ذلك. - ولكنني قررت حقيقة لا شك فيها.
ثم تهربت من الحرج قائلا: أتمنى لك حياة سعيدة وهو الأهم.
Página desconocida
فقالت ضاحكة: حتى الآن فالنهاية تبدو سعيدة.
ثم وهي تودعني راجعة إلى كرسي الإدارة: والعلم عند علام الغيوب!
هكذا وفي يسر تم التعارف بيننا، وتمخضت عنه صداقة جديدة سعدت وما زلت أسعد بها. هي جديدة بمعنى من المعاني ولكن جذورها الخفية توغل في الماضي على مدى ثلاثين عاما أو أكثر، وتتابعت اللقاءات وتراكمت الأحاديث وتوثقت المودة، وتذكرت يوما كم كانت محترمة بقدر ما كانت فاتنة بارعة فقلت لها: كنت فنانة بارعة ومحترمة معا، ألم يكن يعد ذلك معجزة؟!
فأجابت بزهو: كان الرقص الشرقي هزا للبطن والصدر والعجز فجعلته تصويريا. - وكيف تيسر لك ذلك؟ - لم تكن تفوتني حفلات الرقص الإفرنجي في البرجولا.
ثم هزت رأسها في دلال وقالت: أما الاحترام فقد قام سلوكي العام على ألا أقبل علاقة إلا عن حب ولا أمارسها إلا عن زواج.
فتساءلت بتهيب: دائما وأبدا؟
فضحكت هاتفة: ألا يكفي أن يكون الطابع العام هو الاحترام؟
فأحنيت رأسي بالإيجاب، وغمغمت هي بما لم أتبينه. ثم قالت: الحب الصادق يضفي على العلاقة شرعية غير منكورة. - لذلك لم تتعرض لك مجلة بسوء. - حتى المطرقة!
فقلت باسما: ولكن كثيرين انحرفوا بسببك!
فتنهدت قائلة: حياة الليل مترعة بالمآسي. - ما زلت أذكر موظف المالية.
Página desconocida
فقاطعتني هامسة: اسكت، أتقصد عارف سليمان؟ إنه على بعد أمتار منك، هو الساقي الواقف وراء البار.
استرقت إليه النظر في وقفته التقليدية. مترهل، أبيض الرأس، تعكس عيناه نظرة ثقيلة وديعة، ولا شك أنها قرأت الدهشة في عيني فقالت: لم يكن ضحية لي كما قد تظن، كان ضحية ضعفه.
وقصت علي قصة عادية؛ فقد جن بها ولكنها لم تشجعه قط، ولم تكن موارده تسمح له بالتردد الدائم على الملهى، فامتدت يده إلى اختلاس أموال الدولة، وظهر بين الرواد كالوارثين ولكنها لم تنل منه مليما واحدا، ولم تنشأ بينهما إلا العلاقة الرسمية التي تنشأ بحكم تقاليد الملاهي الليلية، ولم يتقدم خطوة حتى ضبط متلبسا فقدم للمحاكمة ودخل السجن. - إنها مأساة ولكن لا ذنب لي فيها، ولما غادر السجن بعد سنوات جاءني في الملهى نفسه، وقال لي: لقد ضعت إلى الأبد. رثيت له، وتوجست منه خيفة، فتشفعت له عند صاحب الملهى فألحقه بوظيفة جرسون، ولما اعتزلت العمل وفتحت هذا المقهى اخترته لعمل الساقي، وهو يقوم به على ما يرام.
فمسحت على شاربي متسائلا: ألم يحن إلى غرامه القديم؟ - بلى، وهو جرسون في الملهى، وضايقني حتى تعرض لعلقة أليمة، وكنت يومذاك زوجة للفيل بطل رفع الأثقال، ثم تزوج بعد عام من راقصة في الكومبارس، ما زالت زوجته، وأما لسبع بنات من صلبه، وأعتقد أنه اليوم موفق وسعيد.
ثم وهي تغرق في الضحك: يحلو لنا أحيانا اليوم أن نتبادل الحب شفويا. - هكذا الماضي ينسى! - ولكن كان له زميل وثب على غير توقع إلى وظيفة وكيل المالية، كان ينقم على الحياة من أجله، حتى أحالته الثورة إلى المعاش فهدأ ثائره وعشق الثورة.
انضممت إلى أسرة الكرنك بصفة نهائية، ونفذت الأسرة في صميم حياتي. منحتني قرنفلة صداقتها ومنحتها، لعبت النرد مع الشيوخ محمد بهجت، ورشاد مجدي، وطه الغريب، عرفت الشباب وعرفوني خاصة زينب دياب، وإسماعيل الشيخ، وحلمي حمادة، كما عرفت زين العابدين عبد الله مدير العلاقات العامة بإحدى المؤسسات، حتى إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية وعامل النظافة صارا لي صديقين، وعرفت سر الكرنك الاقتصادي؛ فهو لا يعتمد أساسا على زبائنه المحدودين، ولكن على أصحاب الحوانيت بشارع المهدي وزبائنهم، وهو السر وراء جودة مشروباته وامتيازها. ومن أسراره أيضا أنه كان - وما زال - مجمع أصوات عظيمة الدلالة، تفصح نبراتها العالية والخافتة عن حقائق التاريخ الحي. لا يمكن أن تنسى أحاديث القوم على عهد انضمامي إليهم، لا يمكن أن ينسى امتنان قرنفلة وهي تقول عند أي مناسبة: لنحمد الله الذي أنعم علينا بالثورة.
وكان عارف سليمان الساقي وزين العابدين مدير العلاقات العامة، يقدسان الثورة أيضا، كل بطريقته ونواياه. ولم يكن الشيوخ أقل حماسا، وإن رددوا أحيانا وبحذر شديد: لم يكن الماضي شرا خالصا.
ومن ركن الشباب انبعث الحماس فوارا كالهدير، عند أكثريتهم يبدأ التاريخ بالثورة مخلفا وراءه جاهلية مرذولة غامضة. إنهم أبناؤها الحقيقيون، ولولاها لتشرد أكثرهم في الأزقة والحواري والضياع. قد تند عنهم أيضا أصوات معارضة توحي بيسارية متطرفة، أو إخوانية حذرة هامسة، ولكنها لا تلبث أن تضيع في الهدير الشامل. ولفت نظري بصفة خاصة إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية، يتغنيان بعنتر وفتوحاته، يعاتبان مرارة العيش ولكنهما يتغنيان بعنتر وفتوحاته، كأن الفقر هان عليهما من أجل النصر والكرامة والأمل. على أن تلك النشوة لم يزهد فيها أحد حتى الحاسدون والحاقدون، لم يخل أحد من رواسب الذل والهزيمة والخذلان، فألهبهم الظمأ نحو الكأس المترعة بتحديات العدو القديم، نهلوا منها حتى الثمالة وراحوا يرقصون من وجد الطرب، وأي جدوى ترجى من النقد عند السكارى؟ أتقول الرشوة ... الاختلاس ... الفساد ... القمع والإرهاب؟ ... طظ، أو فليكن، أو أنه شر لا بد منه، أو ما أتفه ذلك، خذ رشفة من الكأس السحرية وارقص معنا. •••
عندما ترجع قرنفلة من عند الحلاق تسترد إلى حين قدرا من الجمال، وتشتعل الحيوية في عينيها العسليتين، وأغراني ذلك مرة لأن أسألها: لا زوج الآن ولا ذرية؟
ولكنها لم تجب وندمت على ما فرط مني، ولما لمست ضيقي قالت لتخفف عني وهي تشير إلى الزبائن: أحب هؤلاء ويحبونني.
Página desconocida
وتمتمت لغير ما سبب واضح: الحب ... الحب.
فقالت بأسى: طالما تمتعنا بحب من نحب، ولكن لا يخلد من الحب إلا الخيبة. - الخيبة؟ - هي الحب الذي ينجو من مخالب الواقع ويبقى أملا خلابا.
فبحذر سألت: هل خاب لك حب؟ - ليس ذلك تماما، ولكن الحب يتدلل أحيانا. - أحدث ذلك أيام المجد؟ - قد يحدث في أي يوم.
تشوفت إلى سماع المزيد، ولكنها تجاهلت رغبتي ولحظت بطرف عينها زين العابدين عبد الله وقالت: انظر إليه، إنه يحبني، ماذا يريد؟ يقترح مشاركتي في المقهى وتحويله إلى مطعم، ولكنه يطمع أولا في فراشي! - إنه مكتنز بالدهن. - أحلام لن تتحقق. - لعله غني؟ - البركة في أموال الدولة!
فاتجه رأسي بحركة تلقائية نحو عارف سليمان الساقي ولكنها قالت: ذاك اختلس من أجل الحب، أما زين العابدين فينهب من أجل الطمع والطموح، إنهم أنواع يا عزيزي، منهم من يأخذ لضرورة العيش لتقصير الحكومة في حقهم، ومنهم الطامحون، ومنهم من يأخذ اقتداء بالآخرين! وبين هؤلاء وأولئك يجن الشبان المساكين.
فقلت بإصرار: نعود إلى موضوعنا الأصلي.
فقالت بتحد: أنت تعلم أنني أحب!
وكنت قد لاحظت أمورا فضبطتني متلبسا بمراقبتها فقالت: لا تسألني عنه فلست غبيا.
فقلت باسما: حلمي حمادة؟!
فمضت دون استئذان إلى كرسي الإدارة، ومن هناك رمتني بابتسامة عذبة. خيل إلي في وقت من الأوقات أنه إسماعيل الشيخ، وسرعان ما اكتشفت علاقته الحميمة بزينب دياب، ثم وضح الأمر، وحلمي حمادة فتى رشيق، ووسيم أيضا، وذو مناقشات عصبية. وقد اعترفت لي قرنفلة بأنها هي التي بادأته بالغزل، وأمام رفاقه أيضا، وتابعت مرة رأيا سياسيا يدلي به ثم هتفت له، وهي جالسة على مقربة منه: ليحي كل من تريد له الحياة، وليمت من تريد له الموت!
Página desconocida
ولما لبى دعوتها لزيارة شقتها في الدور الرابع من العمارة التي تقع الكرنك في أسفلها استقبلته استقبالا فاخرا، زينت حجرة الجلوس بالورود، ومدت مائدة حافلة وتصاعدت أنغام راقصة من جهاز تسجيل. وقد قالت لي بثقة: وهو يحبني أيضا، ثق من ذلك.
ثم قالت بجدية: ولكنه لا يدرك مدى حبي العظيم.
ثم بامتعاض: ولا يبعد أن يمضي يوما بلا رجعة.
وهزت منكبيها وتمتمت: حكاية قديمة لا جديد فيها. - تعرفين كل شيء ثم تصرين على المضي في طريقك. - قول سخيف يصلح شعارا للحياة.
فقلت باسما: أشكرك نيابة عن الأحياء. - ولكنه جاد وكريم، وهو أول من تحمس لمشروعي. - أي مشروع من فضلك؟ - كتابة مذكراتي، إني متحمسة لدرجة الهوس، ولم يعفني إلا عجزي عن الكتابة!
وبحماس أيضا: أيهتم حقا بالفن وتاريخه؟ - هذا جانب من الجوانب، أما الجوانب الأخرى فتدور حول رجال مصر ونسائها في حياتهم الخفية! - أناس العهد الماضي؟ - والحاضر! - فضائح وما أشبه ذلك؟ - لا تخلو أحيانا من فضائح، ولكن أهدافها أخطر من ذلك.
فقلت محذرا: إنه مشروع له خطورته.
فقالت باهتمام وفخار: وستقوم له القيامة عند نشره!
فقلت ضاحكا: هذا إذا قدر له النشر!
فتجهم وجهها وقالت: يمكن نشر الجزء الأول دون متاعب. - عظيم، ودعي الجزء الثاني للزمن.
Página desconocida
فتمتمت برجاء: لقد عاشت أمي تسعين عاما.
فقلت برجاء أيضا: ربنا يطول عمرك يا قرنفلة. •••
وجئت يوما في ميعادي فوجدت مقاعد الشباب خالية، تبدى المقهى في منظر غريب وخيم عليه هدوء ثقيل. وانشغل الشيوخ بألعابهم وأحاديثهم أما قرنفلة فجعلت تنظر نحو مدخل المقهى بترقب وقلق، وجاءت وجلست إلى جانبي وهي تقول: لم يجئ أحد منهم، ماذا جرى؟ - لعل موعدا شغلهم؟ - كلهم! ألم يكن بوسعه أن يخبرني ولو بالتليفون؟ - أظن أنه لا داعي للقلق.
فقالت بحدة: ولكن توجد دواع للغضب.
ومضت الليلة دون ظهور أحد منهم، وحتى مساء اليوم التالي لم يظهر لأحد منهم أثر، وتغير طبع قرنفلة ومضت تنتقل بين الداخل والخارج في عصبية.
وسألتني: ما تفسير ذلك في نظرك؟
فحركت رأسي في حيرة، وقال زين العابدين عبد الله : إنهم شبان لا يثبتون على حال، ولعلهم انتقلوا إلى مكان أنسب لهم.
فقالت له بغضب: يا لك من غبي! ولم لم تنتقل أنت إلى مكان أنسب لك؟
فضحك ببلادة منيعة وقال: إني في أنسب مكان لي.
وقلت على سبيل المواساة: سنراهم فجأة مقبلين.
Página desconocida
فقالت لي همسا: الحزن يقتلني قتلا.
فسألتها برقة: ألا تعرفين أين مسكنه؟ - كلا، في مكان ما بالحسينية، وهو طالب بكلية الطب، ولكن الجامعة مغلقة لعطلة الصيف، لا أدري شيئا كما ترى.
وكرت الأيام والأسابيع حتى أوشكت قرنفلة على الجنون، وحزنت لها حزنا بالغا حتى قلت لها: أنت تهلكين نفسك بلا رحمة. - لست في حاجة إلى الرحمة ولكني بحاجة إليه.
وتجنب زين العابدين العاصفة بالصمت والانزواء، وكان يداري ارتياحه العميق بالتجهم والاستغراق في النارجيلة. ويوما قال طه الغريب: سمعت عن أنباء اعتقالات واسعة.
فوجمنا جميعا. وقلت: ولكن أغلبيتهم تنتمي للثورة.
فقال رشاد مجدي: ولكن توجد أقلية مخالفة لا يستهان بها.
فقال محمد بهجت: وضح الحق، قد أرادوا اعتقال المتهمين فساقوا أصدقاءهم معهم حتى يتم التحقيق.
وكانت قرنفلة تتابع الحديث بذهول كالبلاهة وترفض أن تفهم شيئا أو تقتنع بشيء.
وجرى الحديث بيننا تعليقا على الحدث: الاعتقال فعل مخيف حقا. - وما يقال عما يقع للمعتقلين أفظع. - شائعات يقشعر منها البدن. - لا تحقيق ولا دفاع. - لا يوجد قانون أصلا. - يقولون إننا نعيش ثورة يستوجب مسارها تلك الاستثناءات. - وإنه لا بد من التضحية بالحرية والقانون ولو إلى حين. - ولكن مضى على الثورة ثلاثة عشر عاما أو يزيد، فآن لها أن تستقر على نظام ثابت.
أما قرنفلة فقد أهملت عملها، كانت تغيب بعض النهار أو النهار كله وأحيانا اليوم بأكمله، تاركة المقهى لعارف سليمان وإمام الفوال، وقالت لي: لم أدع أحدا أعرفه من كبراء الماضي أو الحاضر إلا زرته وسألته، ولا جواب عند أحد، ولكنك تسمع كلاما غير متوقع مثل: «من أدرانا؟» أو «حذار من السؤال وإلا ساءت العواقب.» أو «لا ترحبي بالشباب في مقهاك.» ماذا حصل للدنيا؟!
Página desconocida
وإذا بفكري يتقمص انطلاقة جديدة دافعها الأول الحزن العميق، قلت لنفسي حقا أن حياتنا تزخر بالآلام والسلبيات، ولكنها في جملتها ليست إلا النفايات الضرورية التي يلفظها البناء الضخم في شموخه، وأنها يجب ألا تعمينا عن العظمة في تولدها وامتدادها. هل عرفنا ما كان يعانيه ساكن الحارة في القاهرة عندما كان صلاح الدين يحقق انتصاره الحاسم على الصليبيين؟ هل تخيلنا آلام أهل القرى عندما كان محمد علي يكون إمبراطورية مصرية؟ هل تصورنا عصر النبوة في حياته اليومية والدعوة الجديدة تفرق بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوج وزوجته، تمزق العلاقات الحميمة وتحل العذاب مكان التقاليد الراسخة؟ وبالمثل ألا يستحق إنشاء دولتنا العلمية الاشتراكية الصناعية التي تملك أكبر قوة في الشرق الأوسط، ألا تستحق أن نتحمل في سبيلها تلك الآلام؟! وكنت أشعر طيلة الوقت بأنه يمكن أن أقنع نفسي بضرورة الموت وفائدته بمثل هذا المنطق. •••
وما ندري ذات أصيل إلا والوجوه الغائبة المفتقدة تهل علينا بفرحة مباغتة، زينب دياب، وإسماعيل الشيخ، وحلمي حمادة، وبضعة نفر آخرين، أما البقية فلم نر لها أثرا بعد ذلك. هللنا مرحبين، حتى زين العابدين عبد الله اشترك معنا، أما قرنفلة فتراخت في جلستها كأنما غفت أو أغمي عليها، لم تنطق بحرف ولم تتحرك، حتى مثل أمامها حلمي حمادة، فقالت له بصوت متهدج: سأنتقم منك!
ثم أجهشت في البكاء، وسأل سائل: أين كنتم يا جماعة؟
فأكثر من صوت أجاب: في نزهة.
وضجوا بالضحك، وعاد المرح ولكن الوجوه تغيرت، فالرءوس الحليقة أضفت على السحن غرابة، فضلا عن ذبول واضح في النظرة والحيوية. وتساءل صوت - لعله زين العابدين - قائلا: ولكن كيف حدث ما حدث؟
فصاح إسماعيل الشيخ: دعونا من هذه السيرة.
وهتفت زينب في غبطة: سلمى يا سلامة، رحنا وجينا بالسلامة.
وسمعت اسما يتردد، لا أدري كيف تردد، ولا من كان أول ناطق به، خالد صفوان ... خالد صفوان ... ولكن من هو خالد صفوان؟ ... محقق؟! ... مدير سجن؟! ... أكثر من صوت يردد: خالد صفوان ... وكنت أختلس من الوجوه النظرات، وأكاد ألمس المعاناة، والذهول وراء الأقنعة. وممكن أن أقول إن الحياة في الكرنك استعادت روتينها اليومي، ولكنها في الواقع فقدت قدرا لا يستهان به من صميم روحها. أسدل ستار كثيف على فترة الغياب المجهولة، فمضت كسر مثير تحوم حوله الأسئلة وترتد خائبة. ورغم المرح والأحاديث انتشر الحذر في الجو مثل رائحة غريبة مجهولة المصدر، وتحملت كل نكتة بأكثر من معنى، وكل إشارة أكثر من مغزى، وكل نظرة التبست فيها البراءة بالتوجس، وقالت لي قرنفلة: الأولاد عانوا كثيرا.
فسألتها بلهفة: هل قال لك شيئا؟ - إنه لا يتكلم وفي ذلك ما يكفي.
أجل، في ذلك ما يكفي. نحن في زمن القوى المجهولة وجواسيس الهواء وأشباح النهار. وجعلت أتخيل وأتذكر، تذكرت ملاعب الرومان ومحاكم التفتيش وجنون الأباطرة. تذكرت سير المجرمين وملاحم العذاب وبراكين القلوب السود ومعارك الغابات. وقلت لنفسي مستعيذا من ذكرياتي إن الدناصير استأثرت بالأرض ملايين السنين، ثم هلكت في ساعة من الزمان في صراع الوجود والعدم، فلم يبق منها اليوم إلا هيكل أو هيكلان. وعندما يلفنا الظلام أو تسكرنا القوة أو تطربنا نشوة تقليد الآلهة؛ فإنه يستيقظ في أعماقنا تراث وحشي، ويبعث فينا العصور البائدة. وظلت معلوماتي ترتكز على الخيال حتى أتيح لي بعد ذلك بسنوات أن تفتح لي القلوب المغلقة في ظروف جد مختلفة، وتمدني بالحقائق المرعبة، وتفسر لي ما غمض علي فهمه من الأحداث في إبان وقوعها.
Página desconocida
ولم يكف زين العابدين عبد الله يوما عن التحلي بالصبر، وترقب الفرصة المواتية، ولا شك أن رجوع حلمي حمادة قد أفسد خطته، وحرك مخاوف اليأس في أعماقه؛ فدفعه ذلك إلى تجاوز حرصه المعهود فقال مرة باستهتار على مسمع من قرنفلة: إن وجودهم بالمقهى خليق بالإساءة إلى سمعته.
فسألته قرنفلة: متى تنوي الرحيل؟
فتجاهل قسوتها ببرودة، وقال بنبرة الوعاظ: لي مشروع جم الفوائد يستحق العناية والجدية.
وسألني مستوهبا تأييدي: ما رأيك في المشروع؟
فسألت بدوري قرنفلة: ألا ترغبين في الإسهام بقوة أكبر في الرأسمالية الوطنية؟
فقالت بسخرية: ولكنه يطمع في المال وصاحبة المال.
فبادرها قائلا: اقتراحي يتعلق بالعمل وحده، أما القلوب فشئونها بيد الله ذي الجلال!
فلم تعن بمناقشته أكثر، وبدا أن العشق يستأثر بلبها كله. وطالما شعرت بأنها تمثل دور العاشقة العمياء، فامتلأ قلبي نحوها بالعطف والإشفاق. ولم أشك في أن الفتى يحبها حب مراهقة، هي تتقن كيف تفتنه وتسره وهو ينهل من منابع حنانها، ولكن حتى متى يدوم ذلك؟ وكانت إلى ذلك تساورني بعض الشكوك من ناحية أطماعه، ولكنها قالت لي بثقة لا حد لها: إنه نظيف بقدر ما هو ذكي، ليس من النوع الذي يبيع نفسه.
أفلحت لو صدقت، ولا أملك ما يدعوني للشك في صدقها، ثم إن منظر الشاب وحديثه يدعوان للثقة، وإن شابه الغموض أحيانا والعنف في كثير من الأحايين، ولكن ما جدوى كل ذلك حيال الحقيقة المجسدة وهي أن قرنفلة قد جاوزت خريف العمر، وأنه لم يبق لها من تراث الإغراء إلا المال والإخلاص؟! وقد قال لي زين العابدين مرة: لا يغرنك منظره.
فعلمت أنه يتحدث عن حلمي حمادة وسألته: ماذا تعرف عنه؟ - إنه برمجي عصري أو قناع خداع.
Página desconocida
وصمت لحظات ثم واصل: وفي اعتقادي أنه يحب زينب دياب، وسوف يخطفها يوما من إسماعيل الشيخ.
وأثارت كلمته قلقي لا لأنني اعتبرتها افتراء، ولكن لأنها أيدت مشاهداتي عن المجاملات المتبادلة بين حلمي وزينب، وطالما ساءلت نفسي أهي مودة حميمة أم أكثر من ذلك؟
ولما كانت صداقتي لقرنفلة قد أصبحت راسخة، فقد واتتني الشجاعة لأقول لها: إنك خبيرة بالحياة والحب.
فقالت بزهو: لا يجوز لأحد أن يشك في ذلك.
فتمتمت: ومع ذلك ...؟ - ومع ذلك؟! - هل تؤمنين بنهاية سعيدة لحبك؟
فقالت بإيمان: عندما تحب حقا فإنما تستغني بالحب عن الحكمة والبصيرة والكرامة.
واقتنعت بأنه من العبث أن تناقش عاشقا في عشقه. •••
وللمرة الثانية اختفى الشبان.
وقع المقدور فجأة وبلا سابق إنذار كما حدث في المرة الأولى.
ولم يقع أحد منا في حيرة التساؤل، وعذاب الشك، ولكن اجتاحنا الانزعاج والذهول.
Página desconocida
وترنحت قرنفلة تحت عنف الضربة وتأوهت قائلة: ما كنت أتصور أنني سأتعرض لمرارة التجربة مرة أخرى.
ومن شدة الأسى صعدت إلى شقتها.
وهيأ لنا غيابها حرية للمناقشة فقال طه الغريب: حتى أنا ورغم البراءة والسن بت أخشى على نفسي.
فقال رشاد مجدي متهكما بالرغم من شحوب وجهه: ممكن أن يشك في أمرك رجال الثورة العرابية لا هذه الثورة!
وتساءل محمد بهجت: ترى ما وراء ذلك؟
فقال زين العابدين عبد الله: إنهم شبان ذوو خطورة فما وجه العجب فيما يقع لهم؟ - ولكنهم من أبناء هذه الثورة!
فضحك زين العابدين وقال: الانتماء إلى الثورة حجة شائعة بين أعدائها، كنت في شبابي إذا ضبطني أحد في الطريق إلى درب طياب تعللت بأنني ذاهب للصلاة في الجامع الأحمر!
فقال طه الغريب: إنهم يبدعون في نشر الرعب سامحهم الله.
وبعد مرور أيام جالستني قرنفلة، طالعتني بوجه كئيب ثم سألتني باهتمام: خبرني عن معنى ذلك؟
قرأت خواطرها الخفية ولكنني تجاهلتها، فقالت: توجد حولنا أسرار!
Página desconocida
فتمتمت: ربما. - بل هو مؤكد، جميع الناس يتكلمون ولكن من الذي يبلغ الكلام؟
فقلت بعد تردد: أنت أدرى بالمكان. - لا شك لدي في رجالي، عارف سليمان مدين لي بحياته، إمام الفوال فهو من رجال الله، وكذلك جمعة.
فقلت: وشيوخ المعاش في عزلة على شاطئ الحياة.
وتبادلنا نظرة طويلة ولكنها قالت: زين العابدين وغد، ولكن لا صلة له بالسلطة فضلا عن أنه يخشاها لانحرافه.
فقلت: يعبر بالمقهى كثيرون، ونحن لا نلقي إليهم بالا.
فتنهدت وقالت بامتعاض شديد: لم يعد في الدنيا أمان.
ورجع الصمت المشحون بالأسى، وقعدت قرنفلة على كرسي الإدارة كتمثال فاقد الحياة. أجل كانت أمثال تلك الحوادث تقع كل يوم ولكن تأثيرها يختلف إذا وقعت فيمن يعدهم الإنسان أسرته. وشككنا في كل شيء حتى الجدران والموائد. وعجبت لحال وطني؛ إنه رغم انحرافه يتضخم ويتعظم ويتعملق، يملك القوة والنفوذ، يصنع الأشياء من الإبرة حتى الصاروخ، يبشر باتجاه إنساني عظيم، ولكن ما بال الإنسان فيه قد تضاءل وتهافت حتى صار في تفاهة بعوضة، ما باله يمضي بلا حقوق ولا كرامة ولا حماية، ما باله ينهكه الجبن والنفاق والخواء. وفقد زين العابدين أعصابه فجأة وبلا سبب محدد وراح يقول: أنا حزين، أنا سيئ الحظ، أنا تعيس، اللعنة علي يوم ولدت ويوم عرفت هذا المقهى.
تجاهلته قرنفلة فمضى يقول متحديا: ما ذنبي؟ إني أحبك فما ذنبي؟ لماذا تسيئين إلي كل يوم؟! ألا تعلمين أنه يقتلني قتلا أن أراك وأنت تموتين حزنا؟ لماذا؟ لا تحتقري حبي، الحب لا يحتقر، إنه أسمى من ذلك وأعظم، أسفي عليك، تبعثرين الأيام الباقية من عمرك العزيزة بلا رحمة، وترفضين أن تعترفي بأن قلبي هو القلب الوحيد الذي يعبدك.
وخرجت قرنفلة من صمتها وقالت تخاطبنا نحن: هذا الرجل لا يريد أن يحترم حزني!
فقال زين العابدين بمرارة: أنا! إني أحترم أوباشا ومنافقين ومجرمين وقوادين ومرتشين فكيف لا أحترم حزن من علمني تقديس الحزن من حزني عليه؟! معذرة، احزني، استسلمي لقضائك، تمرغي في وحل الأيام، ربنا معك.
Página desconocida
فقالت بهدوء: لعله من الأفضل لك أن تذهب. - لا مكان لي إلا هنا، وأين أذهب؟ على الأقل يوجد هنا وهم جنوني إخاله أحيانا أملا.
وسرعان ما عاد إلى رشده وهدوئه وهو خجلان، ولكي يسدل ستارا على تهوره نهض بقوة ورشاقة جندي، فنظر نحو قرنفلة وقال: أعتذر.
وحنى رأسه تحية ثم جلس وراح يدخن نارجيلته.
وجاء الشتاء ببرده القارص ولياليه الطويلة؛ فتذكرت أن الشبان كانوا يتلاقون في المقهى حتى في الشتاء - وقت الدراسة - ولو ساعة واحدة، وقلت لنفسي إن المقهى بدونهم لا يحتمل، لم يبق إلا الشيوخ وقد نسوا المعتقلين وتناسوا الرعب والسياسة فعكفوا على همومهم الشخصية، وكأنه لم يعد لهم من عمل إلا انتظار الأجل. وراحوا يبكون الأيام الماضية ويتبادلون وصفات بقصد خفي واحد هو تأجيل الموت. - كل واشرب ولا تهتم فهذا خير شعار في الحياة. - غير ريقك على كوب ماء، ويا حبذا لو عصرت عليه نصف ليمونة. - قال حكيم قديم إني أعجب لآل مصر كيف يمرضون وعندهم الليمون. - الطب الحديث يقرر أن صعود السلم مفيد للقلب. - ومفيد له أيضا المشي. - ويقولون إن الجماع مفيد أيضا للقلب. - السياسة وأنباء الاعتقالات ومعاصرة العظماء. - الزبادي مدهش، والفاكهة ، أما العسل الممزوج بإفراز الملكة فحدث عنه ولا حرج. - والضحك، لا تنسوا الضحك. - وكأس واحدة بالثلج قبيل النوم. - والهرمونات لا يجوز الاستهانة بها. - ومنوم احتياطي للأخبار المزعجة. - وبعد كل شيء وقبل كل شيء قراءة القرآن.
أجل. المقهى بلا شباب لا يحتمل، وحتى قرنفلة لا تدري بأحزاني، ولا تدري أن الصداقة قوية وظمأى مثل الحب نفسه، وها أنا ذا أتجرع الملل وأعاني الوحشة، وأرمق الكراسي الجامدة الصامتة بقلب مشوق حزين، يتلهف على مناجاة أصحابها لتنقدح فيه نشوة الحماس والإبداع والآلام المقدسة. •••
ولدى إقبالي على المقهى ذات مساء لمحت وجه قرنفلة مشرقا على غير عادته. دهشت حقا واجتاحني فيض من الأمل فاندفعت نحو الداخل، وسرعان ما وجدتني حيال الأصدقاء المحبوبين؛ زينب، وإسماعيل، وحلمي، واثنين أو ثلاثة آخرين، وتعانقنا بحرارة وضحكة قرنفلة تباركنا، وتبادلنا الأشواق متجنبين أين وكيف ولماذا، ولكن تردد في همس اسم خالد صفوان الذي صار رمزا من رموز حياتنا لا تكمل إلا به. وقالت لي قرنفلة: تصور أنه قد وقع سوء تفاهم في مطلع الشتاء، وأن البراءة ثبتت في مطلع الصيف، ولا تسأل عن مزيد، حسبك أن تتصور إن استطعت.
ليكن. لا حيلة لنا في ذلك. وقلت لها: ولنتصور أيضا أن المقهى أذن كبيرة!
وتجنبنا حديث السياسة ما وسعنا ذلك، قلت لهم: إذا دعت ضرورة إلى الخوض في موضوع وطني؛ فلنتكلم متخيلين أن السيد خالد صفوان يجالسنا.
ولكن الخسارة تبدت ملموسة أكثر من المرة الماضية، هزلوا كأنهم خارجون من مجاعة، لاحت بأعينهم نظرة حزينة وساخرة، ورسب في زوايا أفواههم امتعاض راسخ. إن حرارة الحديث تذيب الرواسب، فإذا فرغوا منه وخلوا إلى أفكارهم اختفت الأقنعة، وتجلى الفتور والعزلة، حتى العلاقة الحميمة بين زينب وإسماعيل تعاني داء خفيا لا يكاد يرى عند النظرة العابرة، الأمر الذي أثار عواطفي وتساؤلاتي. يا ألطاف الله، إن الآلة الجهنمية تطحن أول ما تطحن أصحاب الرأي والإرادة، فماذا يعني هذا؟
وجالستني قرنفلة مرة فلاحظت أنها راضية ولكنها غير سعيدة، وكنت أعلم أنها لا تجالسني إلا للبوح بشيء فقلت أفتتح الحديث: لندع الله ألا يتكرر المكروه.
Página desconocida
فقالت بأسى: ادع الله كثيرا جدا، قل له إننا في حاجة شديدة إلى دليل حي على رحمته وعدله.
فسألتها بإشفاق: ماذا وراءك؟ - الذي رجع إلى حضني خيال فأين إذن حلمي حمادة؟ - لعلك تقصدين الصحة، ولكنهم كلهم في البلوى سواء، وسوف يستردون العافية خلال أيام. - لعلك لا تدري أنه شاب شجاع ذو كبرياء، وأن مثله يكون عرضة للشر أكثر من غيره.
ثم قالت وهي تحدجني في عيني: لقد فقد القدرة على السعادة!
فلم أفهم تماما ما تعنيه فعادت تقول: لقد فقد القدرة على السعادة. - لعلك تبالغين في التشاؤم. - كلا، وأنا لا أحزن لغير ما ضرورة.
وتنهدت بعمق ثم استطردت: منذ ملكت هذا المقهى، وأنا دائبة على العناية به، الأرض والجدران والأثاث تنال حظها كاملا من اهتمامي الكلي، أما هم فينكلون بفلذات الأكباد، عليهم اللعنة.
ثم قبضت على ذراعي وقالت: لنبصق على الحضارة.
وترددت طويلا بين انبهاري بالعظمة ومقتي للفزع والإرهاب، ولم أدر كيف يمكن أن يتطهر من الحشرات ذاك البناء الشامخ.
وكان زين العابدين عبد الله أول من قال لنا: في الجو غيم!
إنه يستمع إلى الإذاعات الأجنبية، ويعرف أخبارا نادرة، فحدثنا عن نشاط للمتسللين من أبناء فلسطين وما يتوعد به العدو من ردع. قال: ليس بعيدا أن تنشب حرب هذا العام أو العام المقبل.
ولكننا كنا واثقين من قوتنا، فقال طه الغريب: لا خوف علينا إلا من تدخل أمريكا.
Página desconocida
وفي ذلك النطاق دار الحديث، ولم يفسد الصفو في تلك الفترة إلا هبة عارضة من حلمي حمادة كادت تقوض أركان حبه الراسخ؛ فقد توهم أن قرنفلة تعامله بعطف لا يليق بكرامته، فرفض ذلك بإباء، وقرر هجر المقهى لولا أن أمسك به أصحابه، وذهلت المرأة وراحت تعتذر إليه وهي لا تدري بالدقة ما ذنبها. وراح يقول بعصبية: إنه لمقرف أن يضطر الإنسان إلى سماع نغمة واحدة.
واستطرد بحدة: وأنا أكره الأصوات الباكية.
وبحدة أعنف: ثم إنني ضقت بكل شيء.
واعتبرنا المسألة عرضا للحال العامة ، وتجنبنا إحداث أي مضاعفات حتى تمر بسلام، ولم يغن فرح زين العابدين الخفي عنه شيئا؛ فإن حلمي حمادة لم يتماد في غضبه، ولعله ندم على ما فرط منه، ونال التأثر من قرنفلة غايته، ولكنها لم تنبس بكلمة واحدة، وقد همست لي: آخر ما كنت أتوقع.
فسألتها بقلق: أتراه فطن إلى حديثك معي عنه؟
فنفت ذلك بهزة من رأسها. - أله سابقة في ذلك؟ - هي الأولى، والأخيرة كما أرجو. - يحسن بك أن تقلي من الشكوى والرثاء.
فتنهدت قائلة: إنك لا تدري كم أنه تعيس! •••
وفي أواسط ربيع العام وقع الاختفاء الثالث!
لم يثر تلك المرة أي تساؤلات ولا عنفا في ردود الأفعال، تبادلنا النظرات، هززنا رءوسنا، نطقنا بكلمات لا معنى لها: كالعادة. - نفس النتائج. - لا جدوى من التفكير.
أما قرنفلة فقد صمتت طويلا فوق كرسي الإدارة، ثم استرسلت في الضحك طويلا حتى دمعت عيناها، وجعلنا ننظر إليها من مجلسنا صامتين. - اضحكوا ... اضحكوا.
Página desconocida
وجففت عينيها بمنديلها الصغير وواصلت: اضحكوا، جفت الدموع، ولكن لنا الضحك، الضحك أقوى من البكاء وأسلم عاقبة، اضحكوا من صميم القلوب، اضحكوا حتى يسمعنا أصحاب الحوانيت بشارعنا السعيد.
وسكتت دقيقة ثم استأنفت: هل نحزن لأمور تقع بانتظام مثل الشروق والغروب؟ ... سوف يعودون، وسيجلسون بيننا كالأشباح، وعهد الله أن أسمي المقهى وقتذاك «مقهى الأشباح».
ثم نظرت إلى عارف سليمان وقالت آمرة: قدم كأسا لكل زبون من زبائننا الكرام لنشرب نخب الغائبين!
وانطوت السهرة في كآبة شاملة.
على أننا سرعان ما نسينا همومنا القريبة التي تعد شخصية بالقياس إلى الأحداث الكبيرة التي اجتاحت الوطن؛ فقد تطايرت الشائعات وما ندري إلا والجيش المصري ينطلق بكل ثقله إلى سيناء، فاشتعلت المنطقة كلها بنذر الحرب، ولم يداخلنا شك في قوتنا ولكن ... - أمريكا، هي العدو الحقيقي. - إذا هجم الجيش انهالت علينا الإنذارات. - سيتحرك الأسطول السادس. - ستنطلق الصواريخ نحو الدلتا. - ألا يصبح استقلالنا نفسه في خطر؟
الحق أننا لم نشك في قوتنا. تداعت كثير من القيم أمام أعيننا، وتلوثت أيد لا حصر لها، ولكننا لم نشك في قوتنا، وإنه لتفكير لا يخلو من سذاجة، ولكن عذرنا أننا كنا مسحورين ومصرين على الأمل، وبدا أنه فوق طاقتنا أن نكفر بأول تجربة وطنية خالصة جاءت في ختام سلسلة من عصور الذل والاستعباد. ولبثنا متلهفين حتى استيقظنا على أعنف مطرقة صكت رءوسنا الثملة بنشوات العظمة. ولن أنسى ما زفره طه الغريب، وهو أطعننا سنا؛ فقد تجلى الأسى في عينيه وقال: ها أنا ذا على حافة القبر، وسيجيء الأجل بعد أسبوع أو شهر، فيا ربي لم لم تعجل به قبل أن يدركني هذا اليوم الأسود!
وأحرق الحزن قلوب الشعب البريء، ولم يعد له من أمل في الحياة، إلا أن يرد الضربة ويسترد الأرض، ولكني أنصت هنا وهناك إلى قلوب تخفق بالشماتة والفرح، وبدأت أدرك أن الصراع ليس صراعا وطنيا خالصا، وأن الوطن ينزوي حتى في أشد أحوال المحن في خضم صراع آخر يحتدم حول المصالح والعقائد، وجعلت أراقب هذه الفكرة فيما تلا ذلك من أيام وأعوام حتى وضحت جوانبها وتعرت جذورها، فإذا بيوم 5 يونيو يستوي في التاريخ هزيمة لقوم من العرب ونصر لقوم آخرين منهم أيضا، وأنه جاء ليهتك الستر عن حقائق ضارية، وليعلن حربا طويلة المدى بين العرب أنفسهم لا بينهم وبين إسرائيل فحسب. •••
وعقب وقوع الهزيمة بأسابيع عاد الغائبون أو بالأحرى عاد إسماعيل الشيخ وزينب دياب وآخران. وجدنا في عودتهم فرحة عابرة وسط الأحزان وتعانقنا طويلا.
وهتف إسماعيل الشيخ بصوت مضطرب: ها نحن أولاء نعود.
ثم بنبرة أعلى: وقد قبض على خالد صفوان!
Página desconocida
فقال محمد بهجت: كثيرون انتقلوا من مقاعد الحكم إلى أعماق السجون؟
ووقفت قرنفلة وراء الخوان وتساءلت: أين حلمي؟
ولكن أحدا منهم لم يجب فعادت تسأل بإلحاح وضيق: أين هو؟ ولم لم يحضر معكم؟
لم ينبس أحد بكلمة بل وتجنبوا النظر نحوها فهتفت: ألا تريدون أن تتكلموا؟
ولما لم تسمع صوتا صرخت: لا! ... لا!
تم مخاطبة إسماعيل: تكلم، قل أي شيء يا إسماعيل.
ثم تقوس ظهرها فوق الخوان كأنما تعاني تمزقا في بطنها، لبثت كذلك مدة في صمت شامل، ثم رفعت رأسها وهي تتمتم: الرحمة ... الرحمة يا أرحم الراحمين!
وأوشكت أن تنهار لولا أن تلقاها بين يديه عارف سليمان، ثم مضى بها إلى الخارج. عند ذاك قال إسماعيل الشيخ: قيل إنه مات في أثناء التحقيق.
وقالت زينب: هذا يعني أنه قتل.
كان الحزن - كالفرح - ينسى بسرعة في تلك الأيام. وقد قدمت العزاء لقرنفلة، ولكنها لم تفقه لكلامي معنى.
Página desconocida
وانداحت تلك الموجة الطارئة فعدنا نتابع الأحداث ونمضغ الأحاديث، ونعاني الأيام فنحملها فوق كواهلنا ثم نمضي بخطوات ثقيلة متعثرة. نستعيذ من وحدتنا بالتلاقي وكأننا نتقي ضربات المجهول بالتلاصق، ومخاوف الاحتمالات بتبادل الآراء، وهجمات اليأس العاتية بالنكات الساخرة الأليمة، والخطايا الكبرى بزفرات الاعتراف الحارة، وفظاعة المسئولية بتعذيب النفس، وتجهم الجو الخانق بالأحلام المفتعلة. لم نكف لحظة عما كنا فيه والساعات تمضي في أثر الساعات، ونحن نحترق ونتهالك ونخوض ظلمات فوقها ظلمات تحتها ظلمات.
وكان أشدنا مناعة حيال الوباء إمام الفوال الجرسون وجمعة مساح الأحذية؛ فهما يرفضان الهزيمة ويصدقان الراديو، ويحلمان بيوم النصر، ولكنهما بمرور الأيام مضى شعورهما بالكارثة يفتر، واهتمامهما بالحياة اليومية يتصاعد، ثم انحدرا في طريق اللامبالاة إلا ما استقر في أعماق النفس من حزن دائم خفي، وأما جماعة الشيوخ فقد ارتدت مع الأيام إلى الماضي. - لم نصل إلى مثل هذه الحال في أي عهد من العهود. - حسبنا ما كنا نستظل به من حماية القانون. - وحتى أعنف أيام الاستبداد لم تخل من صوت معارضة حر. - وأيام الجهاد والنفي والفداء المجيدة كيف يمكن أن تنسى؟!
وما لبثوا أن رجعوا إلى الوراء أكثر وأكثر حتى استقروا في عهد ابن الخطاب والرسول، فتنافسوا في نبش الماضي يستخرجون أمجاده يتسلون بها عن حاضرهم.
وكان زين العابدين عبد الله يتابعهم بين الاهتمام والاستهانة ثم أفصح عن رأيه قائلا: الحل تملكه واحدة هي أمريكا!
وصادف رأيه هوى في نفس عارف سليمان الساقي فقال: صدقت.
ثم أشار إشارة شاملة وقال: سيتغير كل شيء من جذوره، وما هذه الصحوة إلا الانتفاضة الأخيرة قبل تسليم الروح.
وبقي الشبان وحدهم لا يسلمون أنفسهم للماضي، ولا يأملون خيرا في أمريكا، ورويدا رويدا، وفي أعقاب إفاقتهم من الصدمة، راحوا يتكلمون عن معركة بعيدة المدى، وصراع على مستوى العالم بين قوى التقدم والإمبريالية، وعن تغييرات أساسية جوهرية في الداخل. وهكذا ... وهكذا ... وهكذا.
وبخلاف المسألة العامة لم يحركني شيء سوى ما طرأ من تغيير ملموس على العلاقة بين زينب دياب وإسماعيل الشيخ. تسلل مرض مجهول إلى روحيهما فباتا غريبين أو كالغريبين حتى بت أعتقد أنهما واريا حبهما القديم التراب، وأن كليهما قد استقل بحياته وأحزانه. وعند ذاك رجعت إلى ظني الأول عن حبها لحلمي حمادة، فملت إلى الأخذ به أكثر وأكثر.
وسرني أن أرى قرنفلة وهي تستعيد نشاطها المألوف، واجمة متحفظة أغلب الوقت، تصغي إلينا بلا مشاركة ولا اندماج، وتبدت أكثر جدية وأوغل في الكبر.
وبمرور الأيام غابت وجوه، وترددت وجوه بين الغياب والحضور، واستمر الحال لا يكاد يتغير. وفي تاريخ متأخر نسبيا تهيأت لي ظروف وثقت ما بيني وبين بعض أصدقاء الكرنك، وعند ذاك علمت منهم ما لم يكن لي به علم، فاطلعت على خبايا الأحداث والقلوب وشربت الكأس حتى الثمالة.
Página desconocida
إسماعيل الشيخ
حقا علمت ما لم يكن لي به علم.
وقد أثار إسماعيل الشيخ اهتمامي من أول لقاء ببنيانه القوي، وقسماته الكبيرة الواضحة. لم أر عليه سوى بدلة واحدة يرتديها صيفا وشتاء، يخلع جاكتتها صيفا ويعيدها شتاء بالإضافة إلى بلوفر. ورغم فقره الظاهر حظي بالاحترام، وقد نال أخيرا الليسانس رغم اعتقالاته المتقطعة. - إني ابن بيئة فقيرة جدا، هل سمعت عن حارة دعبس بالحسينية؟ أبي عامل في مطعم كبدة، أمي بياعة سريحة، وهي تبيع أيضا الخوص والريحان في مواسم القرافة، إخوتي الكبار صبي جزار وسواق كارو وإسكافي، مسكننا مكون من حجرة وحيدة في فناء ربع، الربع كأنه أسرة كبيرة يجاوز أفرادها الخمسين عدا، وليس به حمام ولا ماء، وبه مرحاض واحد في ركن الفناء تحمل إليه المياه بالصفائح، وفي الفناء يجتمع النساء، والنساء والرجال أحيانا، يتبادلون الأحاديث والنكات وربما الشتائم واللكمات ويأكلون ويصلون.
وينظر إلي بتجهم ويقول: لم يتغير شيء جوهري في حارة دعبس حتى اليوم.
ولكنه يستدرك: غير أن المدارس فتحت أبوابها، تلك نعمة لا يمكن إنكارها، دخلت مع الداخلين، ولعل أبي كان يتمنى لي الفشل حتى يتخلص مني بإلحاقي بحرفة مثل إخوتي، ولكني خيبت ظنه، وواصلت النجاح حتى نلت الثانوية العامة، وأمكنني الالتحاق بكلية الحقوق، وعند ذاك غير الرجل رأيه وداخله زهو وعجب، أيمكن حقا أن يصير ابنه وكيل نيابة؟ وثمة وظيفتان معروفتان جيدا في حارتنا: الشرطي ووكيل النيابة. وأهل حارتنا يتعاملون معهم كثيرا كما تعلم، وصممت أمي على أن أستمر «ولو بعت عيني» .. والله وحده يعلم كم كلفها أن تبتاع لي بذلة تليق بطالب في الجامعة، ولكنها اعتبرتها كعقار يجب المحافظة عليه، ويجوز إصلاحه أو ترميمه أو حتى تجديده، ولكن لا يجوز الاستغناء عنه.
ثم بحدة: الحارة اليوم مكتظة بالتلاميذ والتلميذات، ولكن مستقبلهم مشكلة متداولة بين الأمم!
وقد قامت الثورة وهو ابن ثلاثة أعوام؛ فهو ابن من أبناء الثورة بكل معنى الكلمة ... ولذلك لم أخف عنه دهشتي لما حل به من آلام وقلت له: لقد ظنك البعض شيوعيا أو من الإخوان.
فقال بيقين: لا هذا ولا ذاك، وانتمائي الوحيد كان إلى ثورة يوليو، أما الآن ... وجعل يهز رأسه صامتا كأنما لا يدري ما يقول، ثم قال: وقد عشت دهرا وأنا أظن أن تاريخ مصر يبدأ بالثالث والعشرين من يوليو، ولم أتجه للبحث عما وراء ذلك إلا بعد النكسة.
واعترف لي بأنه آمن بالاشتراكية المصرية، وأن إيمانه بالدين لذلك لم يتزعزع فسألته: خبرني عن إيمانك بها الآن؟
فقطب قائلا: كثيرون يصبون غضبهم عليها باعتبارها سببا من أسباب الهزيمة، ولكن الحقيقة التي يجب أن تعرف هي أنه لم تكن توجد في حياتنا اشتراكية حقيقية؛ لذلك فإنني لم أتخل عنها، وإن تمنيت أن أقطع الأيدي التي تطبقها، وذلك ما فطن إليه من بادئ الأمر حلمي حمادة الله يرحمه. - لماذا؟ - كان شيوعيا! - إذن كان يوجد بينكم غرباء؟ - أجل، ولكن ما ذنبنا نحن؟
Página desconocida