وسقطت بعض قطرات الحماس من رأسه إلى وجهه الأصفر كما تسقط قطرات الندى على صفحة البركة الآسنة، فتكسب ركودها بعض الحياة.
وسار حسان إلى دوار العمدة، واقترب من بابه الخشبي الكبير فاقترب منه رجل يرتدي قفطانا وكوفية ويحمل على كتفه بندقية، ورأى رأس البندقية مصوبا إلى رأسه، فاغرا فاه كالجرو الجائع أو كالأفعى الظامئة، وتخلخلت ساقا حسان تحت ثقل جسده، وود لو هبطت أليتاه إلى الأرض واستقرتا عليها في راحة واسترخاء، لكنه استطاع أن يتطلع إلى الرجل ذي القفطان والكوفية، متفاديا قدر طاقته النظر داخل الفوهة السوداء السحيقة، واستطاع رغم التصاق لسانه الجاف بحلق فمه أن ينطق بكلمات مبتورة ويقول للرجل إنه يرغب في مقابلة العمدة. ولم يعرف حسان لماذا اتسعت حدقتا الرجل وهو ينظر إليه، واقتفى أثر عينيه وهما تهبطان إلى قدميه، ولمح أصابعه المدببة الرفيعة تكسو شقوقها القصيرة طبقة رقيقة جافة من الطين الأسود، وشعر بالرجل يقترب منه ويمسكه من طرف جلبابه ويجره وراءه كالجرذ الميت، ورأى حسان نفسه داخل حجرة واسعة، ورأى أمامه رجلا آخر يرتدي قفطانا وكوفية ويحمل بندقية كبيرة كالمدفع، وارتعدت ركبتا حسان وهو يشيح بعينيه بعيدا عن فوهة النار المصوبة إلى رأسه، لكن الرجل لكزه في كتفه برأس البندقية مستفسرا عما يريد، وانتزع حسان لسانه من سقف حلقه وأخرجه من بين شفتيه اليابستين ثم أدخله وقال إنه يريد مقابلة العمدة، ثم أغمض عينيه وقرأ بينه وبين نفسه الشهادة.
ولم يعرف حسان ماذا حدث أثناء قراءته للشهادة، ولكنه فتح عينيه ورأى الرجل ذا القفطان والكوفية يشير إلى الرجل الآخر ذي القفطان والكوفية، وشعر بما يشبه الخدر بأصابع الرجل الكبيرة وهي تقبض على ذراعه وتقوده إلى باب كبير، ووضع قدمه على عتبة الباب وخطا خطوة صغيرة ثم رفع بصره لينظر أمامه، فوجد نفسه في الشارع الفسيح.
لا أحد يقول لها ...
الشارع طويل مزدحم، والضباب متراكم كثيف، والأشياء من حولها لا تبدو واضحة، لكنها لا تتوقف؛ إنها تبحث عن أشياء، أشياء لا تعرف اسمها، ولكنها تريد أن تعرف، وتريد أن تستعد، فالشيء الفظيع سيحدث، وقلبها يدق دقات متأرجحة، وأصابعها محشورة في بوز الحذاء المدبب، وكعبها معلق في الهواء على عمود رفيع من الخشب، والطرقعات عالية مخجلة، وشكل قدميها مشوه؛ انبعاج من القاع وتقوس من فوق، تشبهان قدمي أمها، وأقدام صديقات أمها، وكل النساء الكبار، وهي تكره هذا الشبه وتخافه؛ فالنساء الكبار تحيط بهن أشياء غريبة، يخفينها في همسات لا تصل إلى أذنيها، وغمزات العيون لا تفهمها، وضحكات مكتوبة ممطوطة، وأشياء غريبة تخفيها أمها في أعلى درج من الدولاب؛ أربطة طويلة مطاطة، وطبقات كثيرة من قماش سميك، ونظرات غريبة في عينها، خاصة في الحمام حين تساعدها في تنظيف جسمها، تصبح نظرات أمها متعرجة متوجسة، وكلمات ما على طرف لسانها تريد أن تبوح بشيء ولكنها لا تبوح، خطر غامض يختبئ في جسدها، ولا شيء أمامها سوى جدار الحمام العالي الصامت، وأنفاس أمها زفرات مختنقة، وفوق عينيها غمامة لا تنقشع إلا حين تكون الضحكات الممطوطة والغمزات، بل في ذلك الوقت أيضا كثيرا ما تظل هناك سحابة رقيقة من الحزن تطفو على عيني أمها، وعيون صديقات أمها، وكل النساء الكبيرات، شيء ما يتربص بالنساء، شيء يخيفها، وطرقعات الكعب العالي تخجلها، وأصابعها المحشورة في بوز الحذاء تؤلمها، وتقوس قدميها يشيع في جسمها رجفة، يقرب الشبه بينها وبين أمها، ويقربها من الشيء الغامض المخيف، وقلبها لا يكف عن الدق، والحقيبة الصغيرة تحت إبطها والقروش داخلها تشخشخ، ليست كشخشخة الحصالة الصفيح. كل يوم كانت تسقط في الشق قرشا أو نصف قرش إذا ما اشتد شوقها للبان، وكل يوم ترفعها إلى أذنيها وتهزها؛ شخشخة القروش لها رنين حلو، وهي ستفتح الحصالة يوما وتصبح غنية، وتشتري لبانا كثيرا تملأ به فمها، وليست تلك القطعة الصغيرة التي تدخل في ضرسها أو تلتصق بسقف حلقها، والباقي تفرقه على زميلاتها في المدرسة، ما عدا واحدة؛ تلك التي تمضغ كل يوم ولا تعطيها شيئا.
واللبان كان أجمل شيء في حياتها، ولكن الحصالة ازدادت ثقلا، وجسمها لم يعد خفيفا، السلالم التي كانت تقفزها ثلاثا ثلاثا لم تعد تقفزها، وأحيانا لا تقفز إلا اثنتين، وحين تدب بقدميها على الأرض يرتج جسمها وتشعر بألم ما، في مكان ما، ربما في صدرها، في المكان الذي يعلو مؤلما مدببا كرأس الدمل، والبنطلون أيضا لم يعد يدخل، والجوانب تمزقت ثم استحال إلى فوطة للمطبخ، ولم يأت لها بنطلون آخر، وهي تحب ركوب الدراجة أكثر من أي شيء آخر، ربما أكثر مما تحب اللبان، ولكن عيني أمها بنظراتهما المتوجسة المتعرجة تجعلانها تنكس رأسها في صمت.
ركوب الدراجة أيضا أصبح محفوفا بالخطر، والأشياء من حولها تتخذ شكلا مختلفا مثيرا الشكوك؛ صدور فساتينها المستقيمة برزت في كشكشة غريبة، وفانلاتها البيضاء تحولت على قمصان ملونة لها أربطة مريبة تشبه قمصان أمها، وهذا الشبه يخيفها، يقربها من الشيء المخيف، وكل ما يدور في البيت ينذرها، المجلات المصورة اختفت من مكانها على المنضدة، والراديو الذي كان يغني طول النهار أصبح يهمس في أذن أمها، والخروج للعب في الحديقة أصبح محرما، بل مجرد المشي في الخلاء وشم الهواء أصبح ممنوعا.
الحياة خارج البيت أيضا تخبئ لها خطرا غامضا، وعينا أمها تتجسسان على جسدها؛ كل جزء فيه، وكل حركة، وكل خلجة، حين تجلس في حجرتها، وحين تنام في السرير، وحين تدخل الحمام، وحين تضع يدها على رأسها أو بطنها. شيء ما سيحدث، شيء فظيع، شيء لا تعرفه ولكنها تريد أن تعرفه، مهما كان فظيعا فإن عدم معرفته أفظع، وهي تريد أن تعرف كي تستعد، لكن أمها لا تريد أن تنطق، وهي لا تستطيع أن تسأل، كل ما تفعله هو البحث في الخفاء؛ تحت السرير، في الدولاب، في الحمام، تحت ملابسها، بين أصابعها، في ثنيات جسمها، وقلبها الصغير ينقبض على نفسه في تخوف، وشفتاها الرقيقتان تتقلصان في توجس، وأنفاسها تتكور في حلقها وتتصلب. الموت هو الحل الوحيد قبل أن تحل الكارثة، ولكن الموت مخيف أيضا، وسكينة المطبخ بليدة تتثنى على جدار بطنها ولا تدخل، والأشباح تزحف مع الظلام محملة بالسكاكين، ولها أظافر طويلة أو مخالب، أو رءوس مدببة كرءوس الثعابين بداخلها أنياب، وتحاول أن تصرخ لكن صوتها لا يطلع، وتحاول أن تجري لكن قدميها مشلولتان. النوم أصبح عبئا جديدا، وهي لم تكن تتذكر الأحلام، لكن الأحلام أصبحت لا تنسى، فهي تأتي بالليل وتمتد إلى النهار، وأحلام النهار ليست مخيفة، فهي تعوم في بحر دافئ، وعلى جسدها فستان هفهاف شفاف، وذراع تمتد من الماء تدغدغها، ورأس الأمل على صدرها يؤلمها، ليس ألما شديدا لكن جسدها ينتفض، تخنقه لذة خفية، وتحاول أن تجري، لكن الذراع تمسك بها، وعينا أبيها تبكيانها، وتختفي الذراع وراء الدموع ولكنها تريدها، وتشد جفنيها لتغلقهما، فلا تأتي الذراع ولا عينا أبيها وإنما عينان أخريان، تشبهان عيني مدرسة الحساب، وحكايات مدرسة الحساب غريبة، تعرفها كل بنات المدرسة، فقد دخلت الحمام يوما ثم خرجت، ووجدن منديلا غارقا في حبر أحمر، وهمست بنت في أذنها: «لا تريد أي مدرسة تكتب بالحبر الأحمر.» وشدتها بنت أخرى من ملابسها قائلة: «إنها تخاف من اللون الأحمر؛ ديك رومي كبير قفز على كتفها وعضها، كانت ترتدي فستانا أحمر.» وأدخلت بنت أخرى فمها في أذنها هامسة: «ليس حبرا أحمر يا عبيطة. دم، مرض غريب يصيب كل مدرسات الحساب!» والهمهمات تدور والغمزات والشهقات، وتتطاير في الجو كلمات، تلتقطها الآذان الصغيرة المرهفة؛ كل المدرسات، لا كل البنات، كل النساء. وتتلفت العيون البريئة حولها في حيرة، وتلاصق الأجساد الصغيرة بعضها ببعض في فزع، ما من واحدة تعرف الحقيقة، وكل واحدة تحكي قصة غريبة، سمعتها من أمها أو جدتها أو الخادمة الكبيرة.
الأطفال الصغار يولدون من آذان النساء، وتتحسس كل واحدة أذنيها في خوف وحذر. لا ليس من الآذان، من الأنوف، وتقرب كل واحدة طرف أصبعها المرتجف من فتحة أنفها، لا يمكن من الأنف، الفتحة ضيقة، الأطفال لا يولدون بسهولة، شيء فظيع يحدث قبل ذلك، لا تبوح به الأمهات، كارثة تتكرر كل سنة! لا تكوني عبيطة ... كل شهر. يا للمصيبة!
ولكن الانتظار فظيع، أفظع من الكارثة، فلتحل بها المصيبة الآن، وهي تحس ألما خفيا في أحشائها. لا، ليس الآن، ليس في الشارع، والناس كثيرون، لهم شوارب كثيفة، وسراويل طويلة، ستكون فضيحة، ولتنكمش على نفسها وتتضاءل، أو فلتنشق الأرض وتبتلعها. ولكن الأرض لا تنشق، والعيون من حولها ترقب خطواتها، وتتسلق ساقيها وتقيس ردفيها، شيء منكر في جسدها، شيء آثم، العيب؛ العيون تتهمها، والنظرات تحاصرها، وهي تسرع الخطى، والكعب الرفيع يطرقع، والقروش تحت إبطها تشخشخ، والألم الخفي يغوص في أحشائها، والشيء الفظيع سيحدث، وهي تريد أن تستعد، لكن المحلات كثيرة، والبقالة فيها أربطة ولكنها ليست كأربطة أمها، والخردوات فيها أربطة ولكنها لا تشبه الأربطة، وأصابعها المكورة في بوز الحذاء تلتهب، والعضلات في بطنها تتقلص، وقلبها يغوص إلى القاع، وأنفاسها تصعد إلى السماء، والكارثة أصبحت وشيكة، وهي لم تستعد؛ فالأشياء غير موجودة، أشياء لا تعرف اسمها، لا أحد يعرف اسمها، وهي تريد أن تعرف لكن أمها لا تقول لها، ولا أحد يريد أن ينطق، وهي لا تستطيع أن تسأل، وكعبها العالي يطرقع، والقروش تحت إبطها تشخشخ، والشارع طويل مزدحم، والضباب متراكم كثيف، والأشياء من حولها غير واضحة ولكنها تسير ولا تتوقف.
Página desconocida