ولم يكن وجوده بالبيت وإن غاب زوجها يزعجها في شيء، تتركه يتحدث في كرسيه وتفعل ما تريد؛ قد تكتب، وقد تقرأ، وإذا وقع منها القلم وتدحرج تحت المنضدة فهي تنثني لتلتقطه بغير حرج، فإذا ما قفز فستانها الضيق القصير وتعرت تماما من الخلف لم تنزعج، فهو لا يمكن أن ينظر إليها، وإذا نظر فإن نظرته رفيعة مثقفة، تحط على جسدها بغير ثقل وبغير حرارة كالهواء سواء بسواء، حتى حديثه غير المنقطع لم يكن يزعجها في شيء، بل لعله كان يسليها، فإذا ما غاب فتحت الراديو.
أعطى ظهره للمرآة وظل واقفا، كانت جالسة أمامه على كرسي منخفض وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع الطبيعي الذي تتخذه فخذا المرأة الحديثة حين تجلس، وكانت عيناه تنفذان بينهما بسهولة وتبلغان نهايتهما دون مشقة على الإطلاق، وكان قد انتقل في حديثه من السياسة العالمية إلى أصل الكون، إلى الجبرية في الأديان، لكن عضلات عنقه كانت - وهو يتحدث - تتقلص في شدة محدثة صريرا غريبا يخشى أن يكون مسموعا، فإذا به يتكلم بصوت أعلى مما تقتضيه الآداب الحديثة. كان يشعر بشيء من الحرج، لكن صوته يرن في الصالة ذات الأثاث المودرن ويهز الستائر الشفافة فوق النوافذ هزا رقيقا ناعما يدغدغ أذنيه، فإذا به يعشق صوته ويستشعر في نطق الكلمات لذة كبيرة.
وكان الكتاب لا يزال في يدها، وعيناها على سطر فوق إحدى الصفحات، لم تكن تحرك عينيها من كلمة إلى كلمة. كانت تعشق الكتب بشدة لكن كرهها للقراءة كان أشد، فإذا بعينيها تزحفان كمنقار، وتسري نعومة الورق الفاخر في نعومة أناملها؛ فتستشعر ترابطا حسيا بينها وبين الثقافة.
وظل واقفا وظهره إلى المرآة، إنها لم ترفع رأسها بعد من فوق الكتاب، كل ما حدث حينما انقطع صوته فجأة أن امتدت يدها بغير وعي إلى الراديو فامتلأت الصالة بصوت رصين يتلو القرآن، ربما لو كان برنامجا آخر غير محتشم، تمثيلية مثلا أو قطعة موسيقية، ربما تحرك من مكانه، أما أن يتلى القرآن وبذلك الصوت الوقور، فلم يكن أمامه إلا أن يظل واقفا في مكانه بغير حراك. كان الفصل شتاء - اليوم الأخير من شهر يناير بالتحديد - وبالرغم من النوافذ المتينة المحكمة، كان هناك تيار من هواء بارد متجه إلى عموده الفقري بالذات، وفكر في أن يمد يده ليلتقط شيئا من ملابسه الملقاة تحت قدميه، لكنه خشي إن تحرك أن يلفت نظرها قبل أن تنتهي تلاوة الآيات. استطاع فقط أن يرمق بشيء من الحسرة البلوفر بصوفه الإنجليزي الغالي يشيع الدفء في البلاط، وإلى جواره كانت هناك الكرافتة بربطتها المحكمة المحترمة وذيلها الطويل الرفيع اللامع من السولكا، وإلى جوارها تماما ويكاد يلتصق بها كان هناك سرواله القطني الخشن الضخم، يفضح حجم بطنه وانبعاج فخذيه، يفضحهما بغير شفقة وبغير حياء وبغير مراعاة للآداب العامة.
وانتهت التلاوة، وبدأ يفكر في الحركة التي يمكن أن يبدأ بها، وخيل إليه أن حركة الذراع قد تكون أكثر لياقة من غيرها، ولعله حرك ذراعه فعلا؛ لأن الشعر الكثيف تحت إبطه أصبح ظاهرا للعيان، لكن خلجة واحدة لم تتحرك فيها، كانت لا تزال جالسة تقرأ في الكتاب، وفخذاها نصف عاريتين نصف منفرجتين، الوضع العادي الذي تتخذه فخذا المرأة الحديثة حين تستغرقها القراءة، ذلك الاستغراق الطبيعي لأي شخص مثقف، لكنه لم يكن يظن أو لم يكن يدور بخلده أبدا أن الاستغراق مهما بلغ من العمق أو الثقافة يمكن أن يحول بين المرأة وبين رجل عار.
وكانت أذناها قد التقطتا صوت المقرئ، فامتدت يدها بغير وعي وأدارت المسمار بشيء من الرهبة، وبدأ صوت كالهدير يذيع نشرة الأخبار. ربما لو كانت وحدها لامتدت يدها مرة أخرى وأدارت المسمار، لكنها كانت تعرف أنه جالس في كرسيه، عنقه مشدود ومربوط بالكرافتة، ونصفه الأعلى صندوق أحكم إغلاقه بصفين من الأزرار، وساقاه مضمومتان ملتصقتان في احتشام؛ الوضع الطبيعي الذي تتخذه ساقا الرجل الحديث حين يستمع إلى النشرة. وكانت عيناها قد تسربتا من فوق السطر خلسة فوق ذراعها البض الناعم، لكنهما لم تلبثا أن تعثرتا ببضع شعرات نافرات خشنات فتذكرت موعد الحلاقة.
وكان هو قد بدأ يشعر بالحيرة، فما الذي يفعله ليخرجها من ذلك الاستغراق؟ وضع أصبعه في فمه ليصفر كما كان يفعل وهو طفل حاف يلعب في الحارة عاري الأرداف، وربما وضع أصبعه في فمه فعلا لكنه لم يصفر، لم تعد عضلات فمه قادرة على إحداث تلك الأصوات المنافية للذوق العام، وظل واقفا جامدا عاريا كالتمثال، لكن الصمت دب فجأة في الصالة؛ ربما انقطع تيار الكهرباء، ورفعت رأسها من فوق الكتاب فإذا بالصالة غارقة في الظلام، وكادت تصطدم به وهي متجهة إلى حجرة المكتب، لولا أنه تراجع خطوة إلى الوراء، ولما عادت بكتاب آخر كان التيار قد عاد، وكان هو جالسا في كرسيه المعتاد بكامل ملابسه وكامل وقاره.
المربع
كان نائما في تلك المساحة المحددة له بالسنتيمترات، ومن تحته أرض صلبة ناعمة تنفث برودة ورطوبة كبلاط الحمام، ومن حوله من كل جانب كتل من اللحم، طرية وساخنة ولزجة، مختلفة الأشكال والأحجام، أذرع وأرجل ورءوس وظهور وبطون، آدمية كلها من درجة السخونة ومن رائحة الأنفاس، وقد لا تكون آدمية كلها بجوار حصان أو حمار ليقف على هذه الفروق، لكنه يعلم بما يشبه اليقين أنها آدمية كلها، ويعلم بما يشبه اليقين أيضا أنه واحد منها وأنه آدمي مثلها، لكنه ليس يقينا كاليقين، فالشيء هنا لا يبدو كالشيء نفسه، إنه يبدو شيئا آخر، مختلفا تماما، مختلفا إلى حد أنه لا يصبح هو الشيء نفسه وإنما شيئا آخر قد يصل في بعض الأحيان أن يكون هو النقيض نفسه، فهذا اليقين مثلا لم يعد يقينا كما تعوده أن يكون، وإنما أصبح أبعد ما يكون عن اليقين، وأقرب ما يكون إلى الشك، لكنه أيضا ليس شكا كالشك وإنما شك غريب يتأرجح بين الشك واليقين، فلا هو شك ولا هو يقين، تلك الحالة الشاذة التي تمر بنا أحيانا، ربما أثناء النوم، ليس النوم تماما وإنما تلك اللحظة الخاطفة السابقة للنوم، أو تلك اللحظة الخاطفة السابقة لفقدان الوعي أو ربما الموت الكامل. وهو لحظة لا يمكن لي أن أصفها، ولا يمكن لأحد غيري أن يصفها، إلا إذا مارس الموت مرة ثم صحا وجلس كالأحياء ومسك القلم ووصف لنا تلك اللحظة وصفا دقيقا، وهذا ما لم يحدث أبدا.
على أن الأمر ليس هاما بالنسبة إليه إلى هذا الحد أن شيئا لا يعنيه من تلك الأمور التي تعنينا، أن مجرد التفكير على هذا النحو فيما إذا كان ما يحدث له يقينا أو لا يقينا، أنه نائم أو غير نائم، أن هذه اللحظة التي يمر بها تندرج في حكم الزمن تحت اليقظة أو النوم أو الموت، هذه كلها تفصيلات تافهة لا تعنيه، فهو مشغول بما هو أهم، وهو مستغرق فيما هو ضروري له الآن، ضرورة ملحة إجبارية، ضرورة لا تخطر على بال أحدنا؛ لأنها ليست ضرورية لنا، أو لعلها ضرورية لكنها موجودة ومتوفرة في كل مكان وزمان، كالهواء نستنشقه من الجو دون أن يفرغ، وكالأرض نمشي عليها ونرقد فوقها دون أن تنوء بثقلنا أو تضيق بأحجامنا.
Página desconocida