¿Cuántos años tiene la rabia?: Estructura y crisis del pensamiento árabe
كم عمر الغضب؟: هيكل وأزمة العقل العربي
Géneros
هذه ظاهرة لم تتمثل في حالة هيكل وحده، بل تعرض لها كل من يكتب كتابة نقدية عن الأوضاع المصرية في إحدى الصحف العربية، كما أن من يستخدمون هذه الحجة ليسوا هم المواطنين المغتربين العاديين فحسب، بل إن المرء يجدها تتردد على أعلى المستويات، وأستطيع، من تجربتي الشخصية، أن أؤكد أن النسبة الغالبة من أساتذة الجامعات المصريين العاملين في بلد كالكويت، تحتج بشدة على أي مقال يوجه نقدا لحاكم مصر أو حكومتها، باعتباره هجوما على مصر. وهكذا فإن شيوع هذه الحجة بين المغتربين يفوق بكثير انتشارها داخل مصر ذاتها؛ ولذا كانت تحتاج إلى وقفة متأنية تناقش الأسس التي ترتكز عليها بهدوء. (1)
أول أساس لهذه الحجة هو ذلك الذي أوردناه من قبل، وأعني به أن الحاكم تجسيد لبلده، ويزداد الحرص على فكرة التجسيد هذه عندما يكون الشخص مغتربا، بحيث تتضاعف حساسيته إزاء أي نقد يوجه إلى الحاكم، وكم من مصري مغترب ينتقد كتاب هيكل - على سبيل المثال - انتقادا مريرا، لا لأنه غير مقتنع بما يتضمنه من وقائع؛ بل لأنه حتى لو كانت كل كلمة فيه صحيحة، يسيء إلى صورة «مصر».
إن قليلا من التفكير يقنعنا بأن الحريص حقا على سمعة بلاده، هو الذي لا يوحد بينها وبين حاكمها، وفي حالة بلد كمصر يكون من المخجل حقا، أن يساوي المرء بين ذلك التاريخ العريق والحضارة الأصيلة، بين بلد النيل والأهرام والأزهر، وبين تصرفات حكام أفراد يمكن أن يكون الكثيرون منهم مصابين بجنون العظمة، أو داء الاستبداد والبطش والادعاء. إن من يعتز ببلده وتاريخه حقا، هو ذلك الذي يعلن في كل مكان، وأمام الجميع، أن مصر ليست مسئولة عن أخطاء حكامها، وينزه بلده عن تلك النقائص التي يمكن أن يتصف بها هذا الحاكم أو ذاك، أما ذلك الذي ينصب نفسه محاميا عن كل خطأ يرتكبه الحاكم، متوهما أنه يدافع على هذا النحو عن وطنه، فهو في الواقع الذي يسيء إلى هذا الوطن أبلغ إساءة، ولو اتخذت مسألة التوحيد بين الحاكم والوطن قاعدة عامة، لكان علينا جميعا أن نحمل بلدا كمصر أخطاء فاروق والخديوي توفيق والحاكم بأمر الله وقراقوش. (2)
ولكن أصحاب هذا الموقف يلجئون، عادة، إلى إضافة حجة أخرى، هي الإشارة إلى الفارق بين النقد داخل الوطن والنقد خارجه، ففي استطاعتك أن تنقد الأوضاع كما تشاء ما دمت في بلدك، أما إذا كنت في بلد آخر فإن الواجب يقضي عليك بأن تمتنع عن النقد، بل تتصدى له بكل قوة، حتى لا تترك «للغرباء» فرصة «الشماتة» في وطنك. ويشارك الحاكم ذاته في هذه الحجة؛ فهو يهاجم بكل العنف أولئك الذين «يشتمون مصر» في الخارج، وربما استخدم التعبير المألوف «نشر الغسيل»، ويجد هذا الرأي صدى لدى الكثيرين ممن يتقبلون ما يقرءونه أو يسمعونه بلا تفكير، ولكن الأمر المؤسف هو أن الأمر لا يقتصر على هؤلاء، بل إن نسبة كبيرة من المثقفين الذين يشغلون مراكز علمية واجتماعية مرموقة، تردد في كل مناسبة هذا المبدأ: «انتقد بلدك في الداخل كما تشاء، ولكن عليك في الخارج أن تدافع عنها (والمقصود هنا بالطبع: تدافع عن حكامها) بالحق أو بالباطل، ولا تسمح لأحد بمهاجمتها (والمقصود: مهاجمة حكامها).»
فلنناقش إذن هذا المبدأ الخطير، المنتشر على أوسع نطاق بين أوساط المصريين المغتربين على مختلف مستوياتهم:
أولا:
هذا المبدأ يفترض أن العرب، الذين يقيم هؤلاء المصريون في بلادهم، هم بالنسبة إليهم «غرباء»، والأمر الملفت للنظر حقا هو أن نفس هؤلاء الذين يفكرون بهذا المنطق، يمكن أن يتحدثوا باستفاضة، في مجال آخر، عن وحدة العروبة والمصير المشترك، والحواجز المصطنعة بين الأقطار في الوطن العربي الواحد، ولا يدركون التناقض الصارخ بين حديثهم المتحمس هذا، وبين نظرتهم إلى العرب على أنهم «غرباء»، لا ينبغي أن تطرح مشاكل مصر الداخلية أو الخارجية أمامهم، ولا ينبغي أن تتاح لهم فرصة «الشماتة» في مصر. فكيف يسمح هؤلاء لأنفسهم بأن يكونوا إقليميين إلى أقصى حد في جانب، ووحدويين متحمسين في جانب آخر؟ أليس من الواضح أن الإيمان الحقيقي بوحدة العروبة، يحتم على المرء ألا يجد فارقا بين المصري وأي عربي، في نقد الممارسات الخاطئة لأي نظام من الأنظمة، سواء أكان هذا النظام مصريا أم لم يكن؟
إن العرب، من غير المصريين، لا يهتمون بأوضاع مصر من أجل «الشماتة»، كما يتصور قصار النظر هؤلاء، بل إن ما يحدث في مصر من مد وجزر، ومن تقدم أو تخلف، هو الشغل الشاغل لكل عربي لسبب بسيط: هو أنه لا بد، عاجلا أو آجلا، أن ينعكس على بلاده إيجابا أو سلبا، وما من عربي مستنير إلا ويتابع سياسة مصر بكل ما يملك من ترقب واهتمام؛ لأنه يعلم أن مفتاح المنطقة كلها هناك؛ ولأنه يخشى على بلده من أن يلحقها أي مكروه يصيب مصر قبلها، وهكذا فإن الاهتمام الزائد الذي يبديه أي عربي بأوضاع مصر، يظل في واقع الأمر اعترافا بمكانة مصر الرئيسية في الوطن العربي، حتى لو اتخذ شكل انتقاد مرير لأوضاعها، فلماذا لا يبدي أحد اهتماما بانتقاد ما يحدث داخل موريتانيا أو جيبوتي مثلا، حتى لو تراكمت الأخطاء في ممارسات حكام هذين البلدين؟
ثانيا:
يفترض هذا المبدأ أن فرص النقد مكفولة داخل مصر، ولكن أصحابه يخدعون أنفسهم، في الواقع، خداعا مكشوفا حين يتظاهرون بالوطنية فيقولون: انتقد حكام مصر في داخلها كما تشاء، أما في خارجها فلا. من الذي يستطيع أن ينتقد حكام مصر في داخلها «كما يشاء»؟ لقد ظل كتاب مصر ومثقفوها الذين يحملون هموم مصر على أكتافهم يحاورون ويناورون، لمدة ثلاثين عاما، كلما وجدوا أمامهم ممارسات خاطئة، وكم من نقد كان يمكن أن ينقذ البلاد من كوارث رهيبة، عوقب موجهه أو أرغم على السكوت، أو اضطر - على أحسن الفروض - إلى التعبير عنه بحذر والتواء، حتى يمكن أن يجد طريقه إلى الناس وسط الرقابة الصارمة، فلماذا نغالط أنفسنا، ونتصور أن من ينتقد في الخارج يفعل ذلك طواعية، وأنه كان يستطيع أن ينقد في الداخل ولكنه اختار - لمصالح خاصة - منبرا للتعبير خارج بلاده؟
Página desconocida